غسان همداني – ليبانون تايمز
الطائفية ، أقدم واخطر داء مني به ــ وما زال ــ لبنان، وبالذات مع الاعلان عن دولة لبنان الكبير عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى.
للأسف فإن هذه القضية الإشكالية تنامت وازدادت لوجود الحواضن الفكرية، والثقافية، والدينية التي تغذي التعصب الفكري الطائفي وتسجن الوطن في شرنقته،ولا يقتصر الدور على الحضانة، بل يتعداه الى تغذية هذا التعصب من خلال استبدال الولاء الوطني بالولاء الطائفي ــ المذهبي، ويساعد على ذلك غياب تعزيز مفهوم الانتماء للوطن وشكل النظام الطائفي.
هذا النظام، اصبح يمثل حالة نفسية في حياة اللبناني، فضاع بين ولائه الطائفي وولائه الوطني، واصبحت الطائفة التي ينتمي اليها تمثل الإطار الذي يشعر من خلاله بوجوده السياسي،وقد ساهم في ذلك انتاج الطوائف لثقافتها الخاصة وفكرها المتميز، من خلال بناء مؤسساتها المتنوعة المستويات، الدينية، والثقافية، والاجتماعية، والرياضية، والتربوية وغيرها، وقد نجحت الطوائف في ان تدمج في صفوفها الغالبية الساحقة من مثقفيها الذين قام على عاتقهم انتاج هذا الفكروالتبشير به ونشره.
على امتداد عقود من التسويات الطائفية المتتالية، فشلت صيغة النظام الطائفي الى حد كبير في تكوين دولة حديثة، فالنظام الطائفي يمنع المجتمع اللبناني من التقدم ويحول دون بنائه على أسس سليمة تضمن له الاستقرار وتوفر له الازدهار، وترتقي به الى مصاف الدول الراقية، فالطائفية تقف حاجزا في وجه نمو الدولة وتمنع تطورأجهزتها وفاعليتها وخدماتها، وهي تعتبر خرقا لحقوق الانسان التي تنادي بالعدالة وتكافؤ الفرص، كما انها تؤثر سلبا على الوحدة الاجتماعية، وعلى التقدم العام، وعلى الاتجاه الوحدوي في مختلف مفاهيمه، وعلى الاجيال الطالعة ، وعلى النصوص الدستورية والقانونية.
لقد غزا الانقسام الطوائفي والمذهبي كل مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبنانيين، وجرت المأسسة على قاعدة المحاصصة الطائفية من فوق الى تحت ومن دون استثناء،وتمت قولبة المجتمع الأهلي وما تبقى من المجتمع المدني (احزاباً ونقابات و….) على القواعد المذهبية، فبات كل إتفاق لبناني محكوما بأن يكون إتفاقا بين طوائف ومذاهب.
لقد عجز النظام الطائفي عن تحصين الكيان اللبناني والمحافظة على استقلاله، ولم تظهر الطوائف وحدة وطنية تغلب المصلحة العامة،إذ كشفت التطورات منذ قيام الكيان أن لاطائفة عصية على الخارج وعلى استدعائه لدعمها في صراعها مع الطوائف الأخرى.
ينبع العجز عن تحصين الاستقلال اللبناني، وعدم بناء الدولة الحديثة، وتعزيز مفهوم المواطنة، عن هشاشة الوحدة اللبنانية وغياب هوية وطنية جامعة، لا تمثل الطائفة هوية يتوحد على أساسها اللبنانيون بل على العكس ستظل الطائفية مصدر انقسام طالما بقيت قوانينها سائدة.
إن النظام الطائفي يناقض نص وروح الدستور الذي يعتبر “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه” (المادة 27 المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 17/10/1927 وبالقانون الدستوري الصادر في 21/1/1947)، والتي تم الإحتفاظ بها في وثيقة الطائف. إن الإحتفاظ بالنصوص الطائفية تجعل من النواب ممثلين لطوائفهم، وهذا ما يجعلهم اسرى لخطاب طائفي ومناطقي يراعي شعور ناخبيهم، والتقوقع ضمن الدائرة الانتخابية المنتخبين عنها، وانفصالهم عن القضايا الوطنية الكبرى، وعدم التفاعل مع هموم ومطالب اللبنانيين من المناطق الأخرى، ما يؤدي الى انقسام عامودي وافقي على مستوى لبنان.
إن طرح قانون انتخاب على اساس لبنان دائرة انتخابية واحدة يؤدي الى تطبيق روحية الدستور في المادة المذكورة اعلاه، ويفرض على النائب التماهي مع القضايا الوطنية، وحمل هموم الوطن كل الوطن ، واللبنانيين كل اللبنانيين، بمعزل عن إنتمائهم الطائفي ،أو المذهبي، أو المناطقي أو الحزبي.
يعيب البعض على هذا الطرح المقدم من كتلة التنمية والتحرير انه خارج سياق الإهتمام بقضايا الناس، ويجب بالتالي التركيز على القضايا الاقتصادية، ومحاربة الفساد، ويذهب البعض بعيدا فيحرض عليه طائفيا ، تارة باعتباره يطال دور المسيحيين ووجودهم، وطورا بتصويره مدخلا لتغيير النظام القائم.
إن القانون الانتخابي الحالي، وبالرغم من ايجابية وحيدة فيه ألا وهي النسبية، يكرس الواقع الطائفي، والمذهبي، والمناطقي، ويعزز النظام الطائفي وما ينتج عنه من فساد ، كما اسلفنا اعلاه.
ومن منطق الأمور أن يُبحث القانون الانتخاب على متسع من الوقت، ولا يترك للحظات الأخيرة ، بحيث يتم “سلق” القانون ، أو الابقاء على القانون القديم.
للاسف يبدو أن مصالح البعض تتفوق على المصلحة العامة، فالسير بهذا القانون، يقطع الطريق على كثير من الكتل في المجلس النيابي، إذ يسحب من بين أيديها تجييشا طائفيا ومذهبيا، تحسن إستغلاله واللعب على أوتاره، فتشد عصب ناخبيها بتخويفهم من الآخر، على عكس الحال في الدائرة الواحدة، حيث الخطاب الوطني هو المطلوب، ما يفقدهم عددا كبيرا من اعضاء كتلهم، ويفقدهم بالتالي صوابهم.
المفارقة، ان كل المطالبين بمحاربة الفساد، والتمثيل الصحيح، وإلغاء الطائفية السياسية، وإعلان الدولة المدنية، صمتوا كصمت أهل القبور، والمبكي أن البعض منهم ينتقدون القانون، انطلاقا من كرهم للرئيس نبيه بري ، وحركة أمل، دون تقديم ملاحظات جوهرية ، أو تقديم قانون عصري بديل.
إن تطور لبنان يستلزم بنية حديثة للدولة قادرة على مواكبة التطور الجاري في العالم، وعلى تأمين الاستقرار في السلطة والمجتمع، وهذا يتعارض مع وجود سلطة ونظام طائفي عشائري متخلف ومصدر للتجاذبات والتناقضات والهزات في السلطة والمجتمع، ينجم عنها أزمات وتفجيرات دورية وأضرار وخسائر كبيرة اقتصاديا.
ان آفة لبنان هي الطائفية السياسية، التي تقف حائلا أمام معالجة المشكلات الاجتماعية، والتي تمنع أية اصلاحات او تغييرات قد تساعد على تحسين معيشة المواطنين ورفع مستواهم العملي والاقتصادي، لذلك المطلوب إلغاء الطائفية السياسية كمدخل لنقل لبنان من مفهوم المزرعة الى مشروع الدولة.
ان كل الازمات التي عاشها ويعيشها لبنان، ناتجة عن هذا النظام الطائفي الجائر، بالاضافة الى تغلغل الطائفية في نفوس المواطنين، واستغلالها من قبل تجار السياسة والمتسترين بلباس الدين والمنتفعين، ولن يستقيم وضع لبنان الا بالغاء الطائفية السياسية واعتماد النظام الديمقراطي، وأولها قانون انتخابي قائم على اساس لبنان دائرة إنتخابية واحدة خارج القيد الطائفي، وإعتماد النسبية.