الدكتور علي عطايا- ليبانون تايمز
تعتبر الأحزاب السياسية ابرز الظواهر الأساسية في الحياة السياسية اذ انها تنظيم حزبي سياسي يلعب دوراً اساسياً في مشاركة المواطن في صنع السياسيات العامة وتعمل على تمثيل المواطنين والمشاركة الفاعلة في الحياة العامة عبر نقل افكارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووضعها موضع التنفيذ عبر المشاركة بالسلطة. يؤكد الفقيه الدستوري موريس دوفرجيه ان نمو الأحزاب السياسية ارتبط تاريخياً بشكل وثيق بنمو الديموقراطية واتساع مفهوم الاقتراع الشعبي العام.
مما لا شك فيه ان الأحزاب السياسية تعد من افرازات المجتمع الحقيقية ولأن المشاركة السياسية تكون فاعلة اكثر عبر وجود الاحزاب وممارستها لأدوراها المتعددة في النظام السياسي وفي عملية تكوين السلطة السياسية والمعارضة، وهذا لا يمنع ظهور احزاب جديدة تعبّر عن الفئات الأخرى في المجتمع التي لا تتفق مع الأحزاب الموجودة ورؤيتها وايديولوجيتها السياسية وتتنافس معها ديموقراطياً في الوصول الى السلطة او ممارسة المعارضة المنظمة بوجه السلطة من داخل او خارج المؤسسات الدستورية.
آن الاوان ان تعلم هذه الاحزاب وبيقين انها تحتاج للتجديد في برامجها الاجتماعية والاقتصادية وفي طريقة وآلية عملها وفي طريقة مقاربتها للمصلحة العامة وفي انتاج الحلول والمخارج للأزمات الاقتصادية السياسية ولكافة القطاعات المفلسة والمنهارة عن طريق رسم خطط بنيوية للاقتصاد ولكافة القطاعات الإنتاجية والخدماتية. آن الاوان ان تقدم خريطة طريق متكاملة مُقنعة للمواطن للخروج من الأزمة بحيث يستطيع ان يقوم يتقييم أداء هذه الأحزاب ومن ثم محاسبتها على برامجها الاقتصادية والاجتماعية وليس فقط على الشق السياسي.
بدأ الحراك المطلبي في لبنان ينحسر تدريجياً بعد حوالي شهرين من بدئه تحت عنوانين مطلبية اجتماعية اصلاحية، تخلله تسلق عدد من الاحزاب على شعاراته وبعض الطامحين لنشوة السلطة والإستئثار بالقرار وبعض الحالمين الغير واقعيين مع توفر بصمة سياسية واجندات لبعض فصائل الحراك بعيدة عن العفوية والسلمية.
شهران من العشوائية في الطروحات لم تلامس جوهر الأزمة الحقيقية ولم تصل الى مرحلة تبنّي او صياغة ورقة إصلاحية مطلبية اقتصادية اجتماعية تحاكي الأزمة او تشكل برنامج عمل او ضغط لأي حكومة قادمة في ظل انحسار المطالب بالحلول بدلاً من التجمعات الحزبية المنتخبة ديموقراطياً والتي تشكل ما اصطلح بتسميته السلطة بكل تناقضاتها، وهو امر غير منطقي وبعيد عن التحولات والوسائل الديموقراطية للوصول الى السلطة، وايضاً يمكن القول انه وسيلة غير واقعية في بلد كلبنان تحكمه الديموقراطية التوافقية في ظل النظام الطائفي الذي لم يستطع احد العبور فوقه منذ انتهاء الحرب الأهلية بالتوقيع على اتفاق الطائف الذي شرّع أبواب انطلاقة الجمهورية الثانية في التكوين التاريخي السياسي للجمهورية اللبنانية.
ان أي حراك مطلبي يقوم بتجييشه مجموعة من الناشطين وبعض الجمعيات ووسائل الاعلام لا يمكن ان يتعدى دوره ما يصطلح على تسميته بجماعة الضغط لكنه سيصبح مع مرور الوقت دون افق ويكرر نفسه لأنه عاجز عن صناعة سلطة بديلة إذ انه يفتقد لأهم عنصر وهو التنظيم والثبات والتجربة والديمومة والتراكم السياسي والفكري والايديولوجي المتوفر للأحزاب وان نجح في صناعة رأي عام حول قضية او مطالب محقة في عنوانها. لكن الملفت في هذا المشهد السياسي ان الاحزاب التي شاركت في ادارة الدولة طوال السنوات التي تلت افرازات اتفاق الطائف لم تتعظ ولم تستشرف انتهاء مرحلة من العقم الاقتصادي والمالي والإداري والاجتماعي والتربوي والقضائي والصناعي والزراعي والبيئي حتى انه وصل للإدارة السياسية للبلاد التي يبدو انها في مخاض ولادة الجمهورية الثالثة من رحم المأزق السياسي والدستوري الغارقة فيه، بمعنى اوضح ليس المطلوب من هذه الأحزاب التنحي عن المشهد السياسي والسلطة، لكن المطلوب معالجة الازمة وادارتها بأدوات غير تقليدية تحاكي الواقع المستجد والتحديات المطروحة التي ارهقت المواطنين وعبثت بأمنهم الاجتماعي وتهدد مستقبلهم.
ان الأحزاب السياسية مدعوة ايضاً لممارسة الإصلاح قولاً وعملاً عبر الأدوات القانونية الفعّالة عن طريق اقرار كافة القوانين الاصلاحية والقوانين المتعلقة بمكافحة الفساد وان سلوكها الإصلاحي في اي موقع وفي أي ظرف سيتخذ منهج موحد قائم على تنحية واستبدال الموظف العقيم انتاجياً في الادارة وتعيين صاحب الكفاءة بدلاً منه، ومعاقبة الموظف الفاسد وفقاً للقوانين التي تنطبق عليه واستبداله بموظف نظيف الكف، اذ ان ما وصلت اليه البلاد من سقوط مالي واقتصادي له اسباب متعددة بحاجة للمكاشفة واخطاء يجب معالجتها بدلاً من الاكتفاء بخطاب شعبوي عنوانه الفساد والإصلاح دون تحديد ملفات واشخاص وسياسيات وخطط وبرامج ثابتة ترتبط بمكافحة الفساد واطلاق آليات قانونية وإدارية اصلاحية.
كيف السبيل للتخلص من عجز الكهرباء؟ كيف السبيل لتحويل المدارس الرسمية الى مدارس افضل من المدارس الخاصة؟ ولماذا المستشفيات الحكومية لا تنافس المستشفيات الخاصة؟ ما هو النظام المصرفي والنقدي الأمثل لحماية الليرة اللبنانية وحقوق المودعين؟ كيف نحمي حق المواطن في الاستشفاء وبمعايير الجودة العالمية؟ كيف نحمي حق المواطن في بيئة سليمة؟ كيف نواجه ازمة النفايات بعيداً عن متعهدي النفايات؟ ما هي خطة الأحزاب للخروج من الازمة الحالية؟ ماذا انتجت مطابخ الأحزاب الاقتصادية والسياسية والقانونية من حلول ومخارج وخطط للأزمة؟ ما هور دور المثقفين والاكاديميين الحزبيين داخل احزابهم؟
ان اصلاح وتجديد الاحزاب السياسية وانتاجيتها امر حيوي ومطلوب للنهوض بالدولة اذ ان الاحزاب خلافاً للشائع هي في الحقيقة مؤسسات وطنية يخرج منها النواب والوزراء وفيها تكنوقراط واختصاصيين بهوية حزبية وتملك الكثير من الكفاءات العلمية والثقافية اذ ان عمادها الايديولوجية وان حمل الايديولوجية ثقافياً وفكرياً ونقله من جيل الى جيل في ظل العولمة والتطورات المختلفة مهمة شاقة وحمل ثقيل لا يقوم به إلا كوادر مثقفة تملك قوة فكرية منظمة وثبات ورؤية وبُعد نظر.
إن خوض غمار نقاش نقدي تقييمي حول الإصلاح الحزبي داخل الأحزاب وان كان بصورة غير علنية نظراً للخصوصية الحزبية ينم عن شجاعة سياسية وتنظيمية داخل الحزب او التيار السياسي، ويُكرّس أيضا قدرة الأحزاب على مجاراة كافة التحولات والتغييرات ومواجهتها بتطور ادائها. من يريد ويرفع شعارات اصلاح الدولة ومؤسساتها يجب ان يبدأ بالخطوة الاسهل من خلال البدء من نفسه من قلب جسمه الحزبي وإعطاء القدوة من ذاته بحيث يستطيع بذلك تعميق ايمان المنتسبين اليه ايديولوجياً بخطابه وبسلوكه السياسي.
ان الهروب من المواجهة النقدية الداخلية في الأحزاب بات امراً صعباً غير قابل للتاجيل اذ ان الخوض في هذا الإستحقاق اليوم هو افضل وسيلة للدفاع واستعادة المبادرة في ظل الجمود الذي يعيشه المشهد الحزبي والسياسي لكل الأحزاب والتيارات السياسية الفاعلة.