الدكتور مجتبى مرتضى- ليبانون تايمز
برز بشكل ملفت، مصطلحا “التكنوقراط” و”المستقلون” في توصيف الأشخاص المقبولين لتولي المسؤوليات الحكومية من قبل “المنتفضين” وَمِن ورائهم الأحزاب السياسية الخارجة من السلطة، أو، الساعية للدخول اليها. وبات هذان المصطلحان الأكثر استعمالاً على السنتهم وفي كتاباتهم إلى الحدّ الذي يدعو إلى الإرتياب، أو على أقل تقدير إلى التأمل في سّر هذا الاصرار على إلقاء الحرمْ على المنتمين حزبياً، والسعي الحثيث لإخراجهم من المنافسة في السباق الحكومي. قد يكون اليأس من الطبقة الحاكمة هو ما دفع الحراك الشعبي إلى المطالبة بإبعاد السياسيين عن تشكيلة الحكومة والبحث عن أشخاص مستقلين ومختصين لتولي الحقائب الوزارية من أجل تحقيق نتائج ملموسة وسريعة. بالطبع يمكن تفهم ردود فعل الأحزاب التي عملت على استيعاب مطالب الحراك، لكنها مدعوة إلى تقديم نماذج منتجة تعطي قيمة مضافة للعمل السياسي وهي متوفرة بالتأكيد عند معظم هذه الأحزاب. الا انه من المستغرب ان تلجأ أحزاب سياسية إلى الدعوة لتوزير مستقلين، مبتعدين كلياً عن مفاهيم العمل السياسي وأسس بناء الأحزاب السياسية والتي تهدف بالأصل الى الوصول للسلطة من أجل تنفيذ برامجها.
الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية، تسعى للفوز بالسلطة من خلال الانتخابات النيابية التي تعطيها شرعية التأليف او المشاركة في الحكومة. الغاية من ذلك، تنفيذ برامجها التي نشأت بالأصل من أجل تنفيذها. وهذا ما يحصل في الدول المتحضرة التي تتميز بالانتقال الهادئ للسلطة من حزب إلى حزب مع الاحترام التام للإرادة الشعبية في تلك الدول.
التراجع الملحوظ لدور وحضور الأحزاب يعود بشكل مباشر إلى العقلية المصلحية التي تتحكم بالمجتمع اللبناني. هذه الأحزاب وفي سبيل تحقيق الكسب الآني، جارت العقلية القبلية والعائلية والطائفية المتحكمة في المجتمع وهذا ما يظهر جلياً بإدارتها لملف الإنتخابات البلدية، على سبيل المثال وتكريسها مفاهيم تتنافى مع مبادئ العمل السياسي لجهة إختيار المرشحين على أسس طائفية وعائلية، بدل أن يكون اختيارها على أساس البرنامج والفعالية. من هذا المنطلق قد تكون مطالب الحراك الشعبي بوزراء مستقلين “نظيفي الكف” مبررة، بل قد تكون مشتركة مع الكثير من الحزبيين الملتزمين.
وما قد يستند اليه الحراك الشعبي أن الحكومات المتعاقبة لم تخلُ من سياسيين تقليديين وصلوا إلى الوزارة بالوراثة وحاولوا بناء زعامات محلية من خلال شراء الذمم وتوزيع المغانم على الاتباع وهؤلاء بلا شك حجر عثرة في وجه اي عملية إصلاحية في الدولة لأن الإصلاح السياسي والإداري يعني انتهاء حقبتهم السياسية.
أما الاحزاب التي أعتادت أن تخدم الناس كل الناس وأن تسد فراغ غياب الدولة في التنمية وغيرها، كما قدمت دمائها في سبيل الوطن، فإنها بالطبع تمتلك مخزوناً كبيراً من القيادات الملتزمة القادرة على تحمل المسؤولية الوطنية. وليس من المبالغة القول إن ركون الأحزاب واستسلامها أمام تلك الهجمة سوف يكلفها الكثير حاضراً ومستقبلاً، وهذا الإنسياق في حال حصوله سيشكل خطراً وجودياً على الأحزاب السياسية نفسها.
الحل إذا، لا يكون بالرضوخ والذهاب إلى أشخاص لا إنتماء حزبي لهم. وفي ظل غياب الخطط الوطنية، فإن “المستقل” قد يقدم على تصرفات غير محسوبة او المغامرة وفق قناعات شخصية خاطئة غير آبه بالنتائج، لأنه في نهاية المطاف سيعود إلى عمله السابق، في حين، أن الحزبي سيفكر أكثر في عواقب تصرفاته لأنه يمثل جهة سياسية. في المحصلة، فإن مطالبة الحراك بتنحية الأحزاب لا يجب أن يواجه من قبل الأخيرة بالخضوع والإستسلام إلى درجة الإقرار بالفشل، بل بتقديم نماذج حزبية نظيفة ومنتجة تعيد بناء الثقة وترسم صورة مشرقة عن العمل الحزبي في لبنان.
إن “السياسوفوبيا” هي نتيجة متوقعة للحراك الشعبي ضدّ الطبقة السياسية الا أنها في العمق، لا تعدو أن تكون حالة مرضية يجب معالجتها حتى لا تظهر في المجتمع اعراض أمراض الرهاب المتنوعة والتي قد تقودنا إلى المزيد من التقوقع والإنعزال. أما الأحزاب الدافعة في هذا الأتجاه، فإنها بذهابها إلى هذا المطلب تنسف قبل كل شيء شرعية وجودها، وتعطي الإنطباع بأنها غير قادرة على إنتاج الأشخاص القادرين على تولي المسؤولية الوطنية.
قد يذهب البعض، إلى القول بأن الحكومة العتيدة قادمة لآداء مهمة محددة خلال فترة زمنية قصيرة، وبالتالي لا يجب تحميلها أكثر مما تحتمل. مع ذلك، لا يمكن للأحزاب أن تركن لهذا الطعن بعناصرها لأنه سيؤثر حكماً على علاقتهم معها ولا سيما الذي كرسوا الوقت والجهد منهم لخدمة المجتمع.
يبقى أن، البديل عن تقسيم المجتمع بين مستقلين مزعومين وبين حزبيين، هو التوجه نحو حوار حقيقي وواقعي بين مختلف قطاعات الشعب وداخل الأحزاب يسهم في إعادة الاعتبار للحياة السياسية في لبنان. الطرح الأساسي يجب أن يركز على إلغاء النظام السياسي الطائفي والتحول نحو الدولة المدنية. في ظل واقعنا الحالي فإن “المستقلين” هم قبل ذلك، بالتأكيد أعضاء في طوائف مما ينسف فكرة الإستقلال.