الدكتور مصطفى الفوعاني
“عتْمَ يختنقُ العراق ينمو العدمُ في الاخيلة”- أحمد حافظ.
الامام الشهيد محمد باقر الصدر والامام القائد السيد موسى الصدر عنوان تجدد فكري وانساني، يبدو ذلك جليًا من خلال الكثير من المشترك في الثقافة وعمقها، وفي العمل الدؤوب لإصلاح الواقع والمجتمع.
تقوم هذه القراءة على عناوين محددة، وفي مراجعة نقدية هادئة لحياة الامامين القائدين نرى الكثير من المشترك، في نظرة عميقة للوجود وللمجتمع، وهذا الفهم الواعي انعكس في سيرتهما اليومية ما يجعل رابطة الفكر والالتزام أشد انواع الروابط والتلاقي.
ولأن العناوين كثيرة وتحتاج الى دراسة عميقة مقارنة، وهي تصلح ان تكون قبلة الباحثين في شتى علوم المعرفة، فقد ارتأينا ان نسلط الضوء وبصورة موجزة جداً وفقا للاتي:
١- شهر رمضان:
نحن في هذا الشهر الفضيل وتشاء العناية الإلهية ان تكون ذكرى شهادة الامام محمد باقر الصدر هذا العام مع بدايات شهر رمضان، وتغييب الامام موسى الصدر في شهر رمضان في العام ١٩٧٨.
فالشهيد الصدر رأى أن "في شهر رمضان ذكرى مولد الرسالة والقيادة معاً، فنحن إذن نعيش ذكرى مولدنا كاُمّة ووجودنا كقوّة رائدة للبشريّة الذي لم يكن إلّانتيجة هذين العاملين: عاملَي الرسالة والقيادة اللذين تمثّلا في القرآن ومحمّد صلى الله عليه وآله حين تفاعلا في ليلة قدرٍ فريدة في تاريخ الإنسان".
وقد رأى الإمام موسى الصدر أن “شهر رمضان هو شهر الألفة والمحبة والتحسس بآلام الآخرين وجمع الصفوف وتوحيد الكلمة والقلوب وبعث الأمة من جديد”.
يتحول هذا الشهر الفضيل الى شهر الانتصارات والشهادة، وشهر الاعداد والتدريب لا شهرَ الموائد والبطون المتخمة والعقول المختومة، وهذا الفهم الواعي انعكس في تحويل العمل العبادي الى نظرة عميقة ترى ان الإيمان الحقيقي يتمثل بالايمان بالإنسان: حريته، كرامته، اصالته.
٢- العداء لإسرائيل والقضية الفلسطينية:
يرى الشهيد الصدر ان كل من “يقبل الصلح مع اسرائيل فقد خرج من الاسلام، وان العرب والمسلمين لن يتنازلوا عن قضية فلسطين مهما تآمر المتآمرون”.
وأما الامام موسى الصدر فقد رأى ان “اسرائيل شر مطلق والتعامل معها حرام”، وأطلق افواج المقاومة لمواجهتها والحفاظ على كرامة الوطن، وما شهدناه بالامس بعد عملية الشهيد رعد حازم يؤكد صوابية الاستشراف، فهذه الأمة يحركها الدم والشهادة، ونفهم عمق العنوان الأول، ففي شهر الصيام اعداد وشهادة وانتصار، لا سبات ونوم وركون الى الظالم.
٣- في الفهم الواعي لحركية المجتمع:
الشهيد الصدر كان يرى ان ذلك يصدق ايضاً على المجتمعات، فإنها كلما تبنت في تحركها الحضاري هدفاً أكبر استطاعت ان تواصل السير وتعيش جذوة الهدف لفترة طويلة، وكلما كانت الأهداف محدودة كانت الحركة محدودة واستنفذ التطور والابداع، وان المادية التاريخية واجهت مشكلة تتصل بتصوراتها عن مسار التطور البشري وفقاً لقوانين الديالكتيك، وهي الهدف اللاواعي الذي تفترضه الماركسية لحركة التاريخ ومسيرة الانسان هو ازالة العوائق الاجتماعية عن نمو القوى المنتجة ووسائل الانتاج، فإذا كان هذا هو هدف المسيرة فهذا يعني أنها ستتوقف وان التطور سيتجمد في اللحظة التي يقوم فيها المجتمع بتحقيق اهدافه.
و الهدف الوحيد بحسب الشهيد الصدر الذي يضمن التحرك الحضاري ان يواصل سيره نحو الهدف الذي كلما ظن انه اقترب منه اكتشف آفاقاً جديدة وامتدادات غير منظورة فتزداد الجذوة انقاداً والحركة نشاطاً والتطور ابداعاً (المدرسة القرآنية)، فإنسان الدولة الحضارية الواعية هو الذي كلما توغل في الطريق إهتدى الى جديد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
هذة الآية التي اعتمدها الامام موسى الصدر فاتحة لجهاد حركة امل، وهذه هي مسيرة الإنسانية الواعية نحو الخير والكمال، فالتركيبة العقائدية لا ينبغي ان تنفصل عن الواقع، وقد رأى الشهيد الصدر ان “النظرية ما لم تقترن بالعمل والتطبيق لا قيمة لها ولا يمكن ان تصل وتستمر (ولا تبغِ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين)، القرآن الكريم. فالفساد الذي حاربه الامام موسى الصدر والشهيد محمد باقر الصدر وغيرهما تجلى اولاً في الفهم الحقيقي للايمان لا الايمان التجريدي، وان استحضار التاريخ من اجل الوحدة والكلمة والموقف، ولذلك تبنى الامام الصدر انشاء مجتمع داخلي وحارب مفاهيم الجهل والمحدودية والولاءات الضيقة.
في لبنان انشأ الامام موسى الصدر حركة أمل لتكون النظرية والتطبيق مؤسسة تنظيمية للفرد والمجتمع، والتي أخذت على عاتقها تحرير الإنسان وتحرير الأرض ليس على مستوى طائفة او مذهب او دين او وطن، إنما انطلاقاً من عمق تاريخي يمتد مع وجود الإنسان الاول وباندفاعية واعية نحو تحقيق مفاهيم العدالة والمساواة والعيش الكريم وأصالة الإنسان هي البعد الحقيقي للإيمان بالله. عندما اطلق الامام موسى الصدر افواج المقاومة اللبنانية(امل) اطلقها رسالة حضارية، "ان شهداء حركة امل اثبتوا ان الوطنية ليست شعارات ولا ارباحاً ومكاسب بل الوطن هو ابعاد وجود الانسان وأساس كرامته".
٤- الاسلام يقود الحياة والاسلام القرآني:
هذا من اكثر الامور جدلية في قراءة تجربة الاسلام السياسي المعاصر، حيث طرحت اشكالية متعلقة بالفهم الواعي، الفهم الحركي الأصيل للوجود وكيف التقى هذا الفهم مع ما كان الامام موسى الصدر قد طرحه منذ ستينات القرن الماضي ضمن مفهوم الاسلام القرآني.
فرؤية الشهيد الصدر ورؤية الامام موسى الصدر للاسلام نظرة تقود الحياة في ظل ما نشهده اليوم من تشويه متعمد لصورة الاسلام على يد إرهاب تكفيري، واعلام حاقد، ومراكز دراسات هدفها التشويه، وما يصاحبه من همجية في القتل والسلب والنهب والسبي، يقابله تلهٍ متعمد ونبش لقراءات الاختلاف واستحضارها لتأجيج صراع لا يستفيد منه إلا اسرائيل.
رأى الشهيد محمد باقر الصدر ان التركيب العقائدي للدولة ينطلق بأن كل مسيرة واعية هدفاً وغاية تتجه نحو تحقيقها وكلٌ يستمد وقودها وزخم اندفاعها من الهدف الذي تسمو اليه وتتحرك لتحقيقه، فالهدف هو وقود الحركة وهو في نفس الوقت القوة التي تمتصها عند تحقق الهدف، فتتحول الحركة الى سكون، ويعطي الشهيد الصدر مثالاً توضيحياً: شخص يسعى بجد في سبيل الحصول على درجة علمية وشهادة معينة فالجذوة تظل متقدة في نفسه تدفعه باستمرار نحو تحقيق الهدف الذي يسعى اليه حتى اذا ما تحقق له ذلك انطفأت الجذوة وفقد اي مبرر للحركة طالما لم يبرز هدف جديد (الاسلام يقود الحياة).
وحرص الامام موسى الصدر كما الشهيد باقر الصدر على توعية الجماهير ولذلك لم يكتفيا بما صدر من مؤلفات فكرية عميقة، بل مارسا الحياة العملية من خلال السعي الحثيث لتثقيف الناس، اسلام يقبل الآخر ويقبل اراءه ويقدم القراءة الحقيقية لا الطقوس الفارغة هو “اسلام قرآني”، (زيارات، محاضرات، ندوات، مصالحات، ذكرى القسم 17 اذار 1974) وهي محطات شكلت أفق التحرك الواعي البعيد عن المناطقية والمذهبية.
نظرية الاسلام القرآني(موسى الصدر) ونظرية الاسلام يقود الحياة(محمد باقر الصدر)رؤية متكاملة وينبوع واحد وهذا ما يؤكده كلام الشهيد الصدر يوم رأى ان “ميثاق حركة امل ينبع من القرآن ويصب في القرآن”.
٤- في الحياة الخاصة والبعد الاجتماعي:
ان الشهيد محمد باقر الصدر غني عن التعريف، وفي مؤلفاته ما يشهد على نبوغ متفرد، وفي سيرته الشخصية ارتقاء الى مستوى الانسان، وأورد منقبة من مناقبه يتجلى من خلالها كيف واءم الشهيد الصدر بين النظرية والتطبيق من خلال سلوكه، حيث كان الشهيد الصدر يمتلك منزلاً في غاية التواضع، واحتلت الكتب مساحات كبيرة فيه، وزهد في الدنيا وهي مقبلة عليه، لم يلبس عباءة فاخرة بل كان يوزع ما يأتيه من هدايا على الفقراء وعلى طلبة العلم، وكأن بصوت الامام علي (ع) يخاطبه ويخاطبنا: “يا دنيا غرِّي غيري”.
وأما حياة الامام الصدر، فكان صاحب أمانة حفظ الوطن والانسان ومد جسور التواصل الاجتماعي مع كل الشرفاء، وهو الذي كان يقطع يومياً مئات الكيلومترات لرأب التصدعات وحفظ الكرامات، وهو الذي لم يملك منزلا ولم يترك عقاراً بل على العكس كان مديونا والدين الذي كان يستدينه كان يقدمه للمحتاجين، وكان باستطاعته ان يحصل على موارد مالية ضخمة شرط بيع قراره ولكنه رفض، وهذا فهمنا في حركة امل الواعي، فلم نكن تابعين، ولم يرتهن قرارنا لاحد، بل ننطلق من قناعة راسخة، آمنا بها حلقة من حركة الانسان العامة وسنة من السنن الإلهية التي لا تقبل الهزيمة.
٥- في الشهادة والمظلومية: الجلاد واحد
طاغيتان ولكنهما واحد، في العراق١٩٨٠ وفي ليبيا١٩٧٨ قمع وظلم وفتك وبطش، فالطاغية لايقبل الرأي الآخر بل يسعى الى تصفية جسدية او تغييب وسجن، وهذا حال مدرسة أهل البيت عليهم السلام وكم نجد طواغيت العصر يتكررون شجرة خبيثة يجتثها التاريخ وتبقى الشجرة الطيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء.
في وداعه الاخير لعائلته يقول الشهيد الصدر من ذاكرة التاريخ: في اليوم الرابع من نيسان١٩٨٠ وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، اعتقل السيد محمد باقر الصدر ، وكان هذا الإعتقال الأخير بعد حصاره في منزله مدة تسعة أشهر .
فإغتسل غسل الشهادة وودع أطفاله واحداً تلو الآخر إلى أن جاء دور زوجته أم جعفر، وقف أمامها وقال لها هامساً يا اخت موسى (يقصد السيد موسى الصدر): “بالأمس أخوكِ واليوم النديم والشريك والحبيب، اليوم أنا، إنما هي البيعة مع الله، يا غريبة الوطن والأهل”.
إنّ الامام موسى الصدر والشهيد الصدر لم يهادنا ظالماً بل نازلاه على ساحة الفكر وصولاً الى أرقى انواع المنازلة، شهادة الدم وشهادة الاختطاف دون ان يخرج عن خطهما الانساني، بل قدما حياتهما قرباناً للفكر الذي سعى الى حفظ الانسان وكرامته، وبذلك يلتقي الشهيد الصدر مع الامام موسى الصدر برؤيوية واحدة “اجتمعنا من اجل الانسان”.
ان إعادة احياء الذكرى السنوية لشهادة الامام محمد باقر الصدر او ذكرى اختطاف الامام موسى الصدر يكون من خلال استحضار الفكر الذي يقود المجتمع ويحقق ما من أجله دفع القائدين ثمناً باهظا: شهادة بلا رضوخ، اختطاف بلا اذعان.
فلنقرأ وعيًا ولنفهم حركية المجتمع والحدث.