غسان همداني- خاص ليبانون تايمز
كانت عاشوراء وما تزال وستبقى، تمثل أسمى وأشرف حركات الإصلاح والتغيير، والأنموذج الذي يحتذى في التصدي للباطل والاستش- هاد في سبيل الحق، والمنهل الذي ينهل منه كل الثائرين على الطغاة والرافضين للظلم.
لم تكن عاشوراء حركة في سبيل طلب السلطان أو الحكم، بل الباعث والهدف من وراء حركة الإمام الحسين (ع) إصلاح أمر أمة المسلمين بعدما عاث فيها بنو أمية افساداً وانحرافاً، ولأجل إحقاق الحق وإقامة دولة العدالة الإجتماعية يقول الإمام الحسين (ع): ” إني لم أخرج شراً ولا بطراً، انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله أريد ان آمر بالحق وأنهى عن المنكر.
وعاشوراء بنظر الامام الصدر حركة قامت لأهداف سامية بعيدة كل البعد عن حاجات ومصالح فردية ضيقة فالامام الحسين ” قتل لأجل اهداف، واذا قتل هو فأهدافه قائمة بيننا وموجودة فينا: أهدافه الحق، الدين، أهدافه الصلاة أهدافه الإصلاح، أهدافه معاونة الضعفاء، ونصرة المظلومين، أهدافه المطالبة بالحق والسعي وراء الحق .. ” (1)
وعاشوراء كانت المحرك والباعث لمواقف الامام الصدر ” فعاشوراء في ابعادها تتجاوز محنة عاطفية ومأساة بشرية بل إنها نموذج بأسبابها وتفاصيلها تعلم الأجيال، كل الأجيال وتفتح أمام الأجيال، كل الأجيال طرق النجاة وطريق الخلاص”. (2)
كان الإمام الصدر يرى أن عاشوراء هي امتداد للصراع المستمر بين الظالم والمظلوم، وانها بدأت من خلال آدم صفوة الله، وستستمر حتى خروج الامام المهدي(عج)، فهي بنظره لا تقف بمفاعيلها عند استش- هاد الامام الحسين (ع)، ولم تكن حركة آنية بنت ساعتها ولأجل مجتمع معين، بل هي حركة للمستقبل، ولكل الاجيال والمجتمعات الماضية والحالية والقادمة فمعركـة كربلاء ” ليست معركة مفصولة وظاهرة فريدة في تاريخ الانسان، انها حلقة مميزة، طبعاً تختلف عن الحلقات الأخرى من تاريخ الصراع، وكما انها حلقة مرتبطة بالماضي فانها حلقة مرتبطة بالمستقبل”. (1)
واعتبر الامام الصدر، أن عملية افراغ عاشوراء من مضمونها الثوري وتشويهها، وتحويلها الي سيرة قتلى، ومن اجل استدرار الدمع، اشد خطراً من عملية قتل الامام الحسين(ع)، او منع اقامة مجالس عزائه، فيصنف اعداء الامام الحسين الى ثلاثة: ” الصنف الاول: اولئك الذين قتلوا جسد الحسين واصحاب الحسين هؤلاء ظالمون ولكن تاثير ظلمهم قليل لانهم قتلوا الجسد وحطموا الاجساد وحرقوا الخيام انهم قضوا على عناصر محددة اذاً العدو الاول خطره محدود.
الصنف الثاني: اولئك الذين حاولوا ازالة اثار الحسين فهدموا قبره واحرقوا الارض التي دفن فيها وسلطوا الماء على المقام كما فعل بنو العباس او الذين منعوا مآتم الحسين كما كان في السلطة العثمانية…
اذن الصنف الثاني من الاعداء كان خطراً وظالماً ولكنه لم يتوفق وهو اقل خطراً من الصنف الثالث من الاعداء.
والصنف الثالث: هم الذين أرادوا تشويه أهداف الحسين، وتجميد واقعة كربلاء في ذكراه عدا عن حصر ذكرى الحسين في البكاء والحزن والنحيب…”. (1)
كان الامام الصدر، يرفض أن تتحول الاحتفالات بذكرى عاشوراء واقامة المجالس الحسينية الى احتفالات جامدة فارغة من مضمونها، أو أن تتحول إلى مطهر يحضر فيه المذنبون والظالمون، يتظاهرون بالبكاء امام جماهير العامة والمؤمنين فيسبغوا على انفسهم صفة الايمان، وصفة التكفير عن الذنوب بذرف الدموع، كما رفض الامام، أن تتحول المشاركة في هذه المجالس إلى مكان للتنفيس عن الغضب والثورة، واستبدال البكاء والدموع برفض الظلم والخضوع للظالم، فيقول: ” المطلوب عدم الاكتفاء بهذه الاحتفالات كي لا تتحول الى طقوس ومراسم شكلية متحجرة يختفي وراءها المذنبون ويطهر الطغاة ذمتهم امام الشعب بحجة حضورهم المآتم بديلاً عن العمل وتنفيساً للغضب الثائر والاحتجاج البناء”. (2)
هذا لا يعني أن الإمام الصدر كان يرفض اقامة هذه المجالس، لكنه اعتبر ان قراءة السيرة الحسينية بما فيها من اثارة للعاطفة، يجب ان يتزامن ويترافق ويتفاعل مع اعمال العقل لجهة مواجهة الظالم، وعدم الاكتفاء بالبكاء مما يؤدي الى السكينة والدعة والسكوت عن الظالم، والتخاذل عن نصرة المظلوم فيقول الامام ” قراءة المصرع الحسيني لإثارة عاطفتنا، لكي نقف الى جانب عقلنا في مواجهة العدو وفي محاربة الظالمين، أما اذا بقينا على طول في مجال البكاء والنحيب وقفنا عند الابواب وما دخلنا المحراب”. (1)
فالإمام الصدر كان يريد ان يتحول حضور المأتم الحسيني الى مصنع للثورة، الى مكان لبث روح النضال، الى معمل للأبطال.
أراد الامام من المصرع الحسيني أن يشحذ الهمم في سبيل نصرة القضايا المحقة، القضايا نفسها التي من اجلها ثار الإمام الحسين، وقاتل من اجلها واستش- هد في سبيلها الامام الحسين (ع) فيقول الامام الصدر:
” أنا لا اتمكن أن افهم اي مأتم حسيني الا ان يُخَرجَ الأبطال، الا ان يُخَرِجَ من يقف في وجه الظالم، الا ان يُدّرب الذي يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، هذا معنى الحسين ومعنى المآتم الحسينية”. (1)
ولأن المعركة مع الطغاة هي نفسها منذ الأزل، ولأن يزيد يتمثل بأكثر من لبوس وفق العصر والزمان والمكان، ولأن كل طاغية هو يزيد، اعتبر الامام الصدر ان مقاو- مته لاسرائيل امتداد لثورة عاشوراء، فانطلق ثائراً مقاوماً، بقلة من العديد والعدة، مستلهماً خط الامام الحسين رافعاً شعاره ” هيهات منا الذلة ” باثاً في نفوس اتباعه ” كونوا مؤمنين حسينيين” مطلقاً افواج المقاومة اللبنانية ” أمل ” التي اعتبرها الامام الصدر ان ارثها في ثورة الحسين وارث الانبياء.
دعا الامام الصدر، الى فهم ابعاد ثورة الامام الحسين الدينية والاجتماعية والعسكرية، من اجل العمل من وحيها وعلى منوالها، رافضاً ان تتحول الحركة الحسينية الى مؤسسة او الى طقس فتفرغ من مضمونها مؤكداً انه: ” علينا أن نحاول ادراك أبعادها والتحرك على ضوء تعاليمها” (2).
كان هم الامام الصدر أن تبقى عاشوراء حركة فاعلة مؤثرة، وان يستفاد من هذه الحركة من أجل تحويلها وقوداً دافعاً لمقارعة الظلم والظالمين، والثبات على الموقف الحق، وعدم التزحزح عنه مهما كانت الاثمان، دون خوف او وجل من الكثرة والقوة او السلطة، تماماً كما كان الامام الحسين (ع) واصحابه ثائرين صامدين، بواسل امام جبروت السلطة الاموية وطغيان يزيد، هنا يؤكد الامام الصدر أن: ” ذكرى عاشوراء يجب ان تبقى حية مؤثرة في حياتنا كما كانت المعركة فتحولها الى دافع للوقوف القوي الثابت الى جانب الحق مهما بلغت التضحيات”. (1)
اعتبر الامام الصدر ان الامام الحسين في عاشوراء كشف الحقيقة، حقيقة الامة، التي ساعدت الا القليل منها على قتل الامام الحسين، اذ : ” كيف تمكنوا من ارتكاب الجريمة؟ تمكنوا بامر الامر، وتنفيذ المنفذ، وتأييد المؤيد وسكوت الساكت، يعني نتمكن ان نقولها : تلك الامة قد اجمعت على قتل الحسين، الامة باجمعها بقولها وفعلها وسكوتها ورضاها وصمتها وسماعها، قد اجمعت على واقعة كربلاء الا النادر منها”. (2)
فالانتصار للامام الحسين يبدأ من عدم الصمت، يبدأ من رفض الظلم، يبدأ من تأييد الحق ولو كان ضد المصلحة الخاصة، يبدأ في سلوك سبيل الحق، فنصرة الامام الحسين في نظر الامام الصدر، تكون في العودة الى جادة الحق والصراط المستقيم، والابتعاد عن الانحراف ولوكان جزئياً، واعادة الحقوق ولو كانت صغيرة، ان كفكفة دمعة اليتيم، وترك الشهوات، والتحرر من الاهواء، هو نصرة للامام الحسين، فنحن على حد قول الامام:
” حينما نغير انفسنا، حينما نجعل الهنا الله نفسه، لا هوانا اذا اصطدمت مصلحة اخي مع الحق، افضل الحق عليه، اذا اصطدمت مصلحتي مع الحق افضل الحق على نفسي واذا اصطدمت مصلحتنا مع مصلحة غيرنا وكان الحق معهم نسلك سبيل الحق ونصبح جزءاً من بحار الحق هذا هو السبيل… البدء يجب ان يكون منا ونحن لسنا فقراءً ولسنا صغاراً، اننا عبيد اذا كنا عبيداً لشهواتنا ومن ترك الشهوات كان حراً، والحر هو الذي يتحرر من نفسه، وان كنا عبيداً لمطامعنا وشهواتنا فمئات والوف منا عبيد يخضعون لامر الشيطان واذا كنا احراراً كل واحد منا يصبح الامام الحسين في حياته ويتمكن ان يقف في وجه دولة بني امية بقضهم وقضيضهم بجيشهم وسلاحهم ومالهم وكل شيء”. (1)
هكذا أراد الامام الصدر ان تكون عاشوراء هي الميزان التي تعرض عليها الاعمال، ان تكون مرحلة تغييرية تبدأ بالتوبة الى الله عند الامام الحسين، ولا تقف عند حدود، بل تنتقل الى البدء بصفحة جديدة في الحياة قائمة على المبدأ الحق، فيقول الامام :” نحن جئنا الى هذا النادي على ضوء من مصباح الحسين، حتى نراه في ذهننا وفي عقولنا، وفي قلوبنا، ونبايعه ونتوب الى الله عنده، ان نعود في هذا اليوم ونبدأ صفحة جديدة في حياتنا حياة كريمة تتناسب معنا ونتراجع كما تراجع الحر، وزهير بن القين وغيرهما، فنحن بكل سهولة أيها الاخوان بامكاننا ان نرجع الى الحسين (ع) “(2) .
ذهب الامام الصدر، إلى أنه يحب الاستفادة من احتفالات عاشوراء، في سبيل خدمة الهدف السياسي الأسمى الذي سعى اليه الامام الحسين(ع)، والذي هو الركيزة الاساس في عمل وحركة الامام الصدر، وهو نصرة الانسان المحروم والمستضعف ومحاربة الظلم والظالمين، والاضطهاد والمُضْطَهِدين، والطاغوت،والاستكبار،والتسلط، والتحكم برقاب الناس، كل الناس، من اي فئة كانوا والى اي جهة انتموا، من هنا، فهو يؤكد أن : ” احتفالات عاشوراء كانت منذ ان كانت، احتفالات دينية ترمي الى هدف سياسي وهو محاربة الظلم والطغيان عبر العصور”. (1)
هكذا رأى الامام، ان الغاية من اقامة المجالس الحسينية، هي ان تخلد مدرسة الامام الحسين(ع)، مدرسة آل البيت، مدرسة الرسول (ص) الى الأبد، الغاية ان ندرك عظمة الامام الحسين (ع)، وعظمة هدف الامام الحسين(ع)، ان سكب الدمع على الامام الحسين (ع) هو من اجل ان تنسجم روحنا مع روحه (ع)، وتتعالى ارواحنا قليلاً لتلتحم مع الروح الحسينية، وتلتقي مع الهدف الاساس وهو الاصلاح في امة جده(ص)، بحيث ان البكاء يجب ان يتزامن مع العمل من اجل هذا الاصلاح، فتتحقق نصرة الامام الحسين (ع)، والا فاننا نكون خذلناه، وساهمنا في جريمة قتله وسبي نسائه، وفي جريمة انتهاك الدين والاساءة الى الله ورسوله (ص)، يقول الامام : ” البكاء لا يكفي، الاحتفال لا يكفي الحسين لا يحتاج الى ذلك، الحسين شهيد الاصلاح، فاذا ساعدنا في اصلاح امة جده نصرناه واذا سكتنا او منعنا الاصلاح خذلناه ونصرنا يزيد” (1) .
لقد توافقت رغبة الاقطاع السياسي والاستعمار مع رغبة الزعماء السياسيين ومع انكفاء عمل بعض رجال الدين، في تفريغ ثورة الامام الحسين(ع) من مضمونها، وتحويلها الى مجلس بكاء وعويل من اجل تبرير تقاعسهم، ومن اجل تفكيك اية بوادر حركة ثورية او مطلبية او اصلاحية، تطال مكاسبهم وتهدد مصالحهم، فأرادوا تحويلها الى حائط مبكى، تبث عندها الهموم، وتهون عند مصائبها مصائب الناس، فتُرمى الاثقال والمطالب على اكتاف عاشوراء، وعلى اكتاف الامام الحسين(ع)، فلا يعود من حاجة للثورة او للتحرك او للاحتجاج، فيستكين الناس، وتذل رقابهم، وتهان كراماتهم بانتظار الفرج الآتي، وتقتل فيهم روح الثورة والرفض والسكوت على الظالم، يقول الامام الصدر:” تعزية الحسين لا تربي اذلاء، ولا تربي بكائين، تربية الحسين، تعزية الحسين، تربي الحسينيين اولئك الذين يرفضون كالحسين السكوت على الظالم”. (2)
اعتبر الامام الصدر ان عاشوراء، التي حفظها اجدادنا، من خلال اقامة مراسيمها وصيانة قيمها، هي ذخيرة معدة لايامنا هذه، ولكل يوم يكون فيه التسلط والجبروت والطغيان، فاعتبر ان اسرائيل في يومنا هذا بمثابة يزيد في ايام الحسين، وان مقاومتها والوقوف في وجه اطماعها، ودحر خطرها، والقضاء عليها هو من صلب معركة كربلاء، ومن ضمن أهداف الإمام الحسين(ع)، دون النظر إلى عظيم التضحيات والاثمان، تأسياً بما قدمه الإمام الحسين (ع) واهل بيته واصحابه في كربلاء، يقول الإمام الصدر: ” لنعلم ان عاشوراء التي أوجدها لنا أجدادنا هي ليومنا هذا وعليه يجب ان نقف في وجه إسرائيل ونقتل المهاجم وندافع عن أنفسنا ولو قتلنا وقتل أولادنا وسبيت نساؤنا وهدمت بيوتنا وفظعوا فينـــا”. (1)
ذهب الإمام الصدر، إلى أن عاشوراء، محطة تبرز التفاني والإيثار والارتقاء إلى أعلى درجات التقديم والتضحية والوفاء، إذ ان الإنسان حين يبذل نفسه في سبيل الهدف يكون قد قدم أغلى ما عنده، أما أن يبذل أهله واصحابه ومن ثم نفسه فهو يكون قد تجاوز بذلك أعلى المراتب، ومن يهون عليه بذل الأرواح يهون عليه بذل أي شيء من المال والعطاء والاستقرار والأمن والاطمئنان، ذلك ان:” الحسينية تعني بلوغ الإنسان غاية التضحية بلوغ الإنسان نهاية التقديم والوفاء والخدمة بلوغ الإنسان اكثر ما يمكن من الخدمات والبذل والعطاء…”. (1)
إذاً الحسينية، بنظر الإمام الصدر، تعني بلوغ الإنسان أسمى غايات التضحية من اجل المبادئ المحقة العادلة، إنها الهدف الدائم للإصلاح والتغيير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنها الجه- اد ضد الأعداء، ضد الظالمين، سواء أكان العدو يزيد، أو أميركا، أو إسرائيل، أو الاستعمار، أو الاحتكار، أو الاستحمار، أو الحاكم الظالم ولو كان شيعياً.
لقد أخرج الإمام الصدر عاشوراء من دائرة البكاء والنحيب، والاستكانة والصمت والخنوع والخضوع واعادها، إلى دائرتها الأساسية ودورها الريادي في خلق إنسان ثائر، ومجتمع ثورة، يرفض الظلم ولا يسكت عليه، ويقارع الباطل، يتأسى مع الإمام الحسين بدمعه وبكائه وينصره بالدم والتضحية والفداء.
هذه الروح الثورية، هي التي قوّت عزيمة المقاتلين وثبتت أقدامهم بالرغم من قوافل الشه- داء، ومن صعوبة المواجهة، وعدم التكافؤ لجهة العدد والعدة، فسطروا أروع ملاحم البطولة، ومرغوا بالتراب وجه الدولة الصهيونية، وهزموا الجيش الذي عجزت عنه جيوش الانظمة العربية، والذي كان يبث الرعب والخوف في قلوب الحكام والسلاطين فكان التحرير وكان النصر .