عضو كتلة التنمية والتحرير النائب محمد خواجة
ذات عشية من شباط 1984، كانت البلاد تختزن الكثير من القهر والغليان جرّاء ممارسات حكم فئوي، امتهن القمع والتمييز بحقّ شرائح واسعة من اللبنانيين. وعلى خط موازٍ، وقّع مع العدو اتفاق 17 أيار، ليكون لبنان ثاني بلد عربي يلتحق بقطار “السلام الإسرائيلي”.
في تلك الأيام الصعبة، تفجّرت انتفاضة شعبيّة بقيادة الرئيس نبيه بري وحركة أمل، نجحت بفكّ أسْر العاصمة وضواحيها، وفتح طرق التواصل باتّجاه الجبل والساحل. وقد تجاوزت مفاعيل تلك الانتفاضة استعادة توازن المعادلة الوطنية، لتصحّح مسار مواجهة العدو بإسقاط ذاك الاتفاق المشؤوم، كأحد تجليّات الاجتياح الإسرائيلي 1982.
حينذاك، تحوّلت بيروت وضاحيتها الجنوبية إلى قاعدة دعم قتالي ولوجستي واحتضان سياسي وشعبي للمقاومة في مواجهة قوات الاحتلال المتمددة على نصف الجغرافيا اللبنانية تقريباً. مقاومةٌ بذَرَ بذرتها الأولى سماحة الإمام المغيب السيد موسى الصدر في تراب عاملة لتعمّ الوطن، وأضاء شعلتها دولة الرئيس نبيه بري. ونُسجت، آنذاك، علاقة تشابكية بين الانتفاضة والمقاومة غذّت كلتيْهما بالمزيد من عناصر القوة، ما رفع مستوى أداء المقاومة وطوّر قدراتها، كمّاً ونوعاً، فانتقلت في مسارها الميداني من الهجمات البسيطة إلى العمليّات المركّبة التي تشترك فيها مجموعات عديدة، ضدّ أهداف أكبر وأكثر إيلاماً للعدو. عند ذاك، بدأت تباشير النصر تلوحُ مع تتالي انسحابات الجيش الإسرائيلي، ليكون شهر أيار 2000 مسك ختامها، بانسحاب قوّاته، مرغمةً، إلى حدود فلسطين، ما عدا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر. إنها المرة الأولى التي تحررت فيها أرضٌ عربية محتلة بفعل المقاومة المسلّحة.
عندما حاول العدو الثأر لهيبته في تموز 2006، تجدّدت هزيمته ثانيةً، وتثبّتت معادلة ردعٍ حاكمة لقواعد الصراع حتّى اليوم. في تلك الحرب ظهر الجيش الإسرائيلي مرتبكاً عاجزاً عن الاندفاع في اجتياحات برّية واسعة، خشية تعاظم خسائره، مكتفياً باستثمار جبروت نيرانه. وخلال السنوات الماضية، تكرّر مشهد الارتباك، مراراً، قبالة أسوار قطاع غزة المحاصر.
لقد بدا للإسرائيليين وللعالم، أن جيش الحروب الخاطفة والحسم السريع والانتصارات السهلة بات من الماضي. وذلك بفضل تطوّر أداء قوى المقاومة وقدراتها في لبنان وفلسطين… وبهذا أُصيب المشروع الصهيوني مقتلاً على المستوى الإستراتيجي مع انكسار مفهوم التوسّع، أحد أهم مرتكزات ذاك المشروع، بالإضافة إلى مفهوميْ الهجرة والاستيطان.
يبدو أن الجسد العربي السقيم لم يتحمّل انتصارات المقاومة، وبدل أن يتّخذها بعض العرب المصابون “بمتلازمة ستوكهولم” إنموذجاً لتحرير الإرادة والأرض، تآمروا عليها، واصطفّوا على ضفّة أعدائها، منضوين تحت راية التطبيع كمعبرٍ لتصفية القضية الفلسطينية. لكنّ التاريخ، كمعلّمٍ أول، ينبئُنا أنّ الشعب الفلسطيني ومعه أحرار العرب والعالم، لمنتصرون ولو بعد حين…
رغم انقضاء سبعةٍ وثلاثين عاماً على انتفاضة السادس من شباط المجيدة، لا تزال روحُها كامنةً بين ثنايا انتصارات المقاومة، لتزيدها قوةً ومنعةً وجرأةً… كي تبقى شعلة الأمل متوهّجةً متّقدةً على الدوام.