عباس منذر
لطالما شكّل لبنان، بتنوعه الطائفي وانفتاحه الفكري وإرثه التاريخي، نقطة ارتكاز واهتمام دوليين، جعلته صاحب أكثر الألقاب بين دول المنطقة، فتارةً هو بوابة الشرق إلى الغرب، وتارة أخرى بلد الرسالة ضمن حوار الحضارات، وكثير من الأحيان لُقب بـ”سويسرا الشرق” وما يحمله هذا اللقب من صفات تجمع داخله مصالح اقليمية ودولية أثرت سلبًا وايجابًا في حياته السياسية.
كل هذه الألقاب وضعته تحت المنظار الدولي، وجعلته يعاني من تقلبات سياسية ومواجهات ميدانية، لم تسمح له أن يؤسس لنفسه دولة راشدة تحمي نفسها من الخضات الدولية والاشتباكات الاقليمية على أرضه، فلا يوجد مؤامرة على المنطقة، أو تسوية اقليمية في المنطقة، الا ونجد في لبنان رائحةً لها تنطلق منه.
قبل العام 1982، حضّر العالم الأرضية العربية للتسوية الكبرى مع العدو الإسرائيلي، الرئيس الأميركي جيمي كارتر يعلن عن معاهدة سلام بين مصر والعدو الاسرائيلي، اتصالات عربية إسرائيلية غير معلنة، بعض الدول العربية جهّزت نصوص الاتفاقيات بانتظار لحظة الاعلان، سوريا تعاند من أجل العروبة والقضية الفلسطينية.
في لبنان، ومع بداية العام 1982، النار الاسرائيلية ترقص على ايقاع القرار الأميركي، بأن أسقطوا لبنان لتتهاوى معه فكرة الممانعة والمقاومة مع أنظمتها وشعوبها، الحكم اللبناني برئاسة أمين الجميل يرضخ ويلتزم، المقاومة اللبنانية بقيادة رئيس حركة أمل الأستاذ نبيه بري ترفض وتواجه، السلطة اللبنانية توقع اتفاق 17 أيار بنصه الانهزامي، حركة أمل توقف الزحف الاسرائيلي على تخوم منطقة خلدة وتغير مجرى المعارك.
هذا المشهد أربك المواقف الدولية والعربية، المتحمسون للتطبيع فرملوا اندفاعتهم، المعاندون بالممانعة تحضروا لاستعادة زمام المبادرة، وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية آنذاك ألكسندر هيغ يكثف اتصالاته لحماية مشروع الشرق الأوسط الجديد، مناحيم بيغن رئيس وزراء العدو يتخبط في مكتبه وإلى جانبه وزير دفاعه آرييل شارون.
هذا المشهد أيضًا، وفي ظل الصراع الدولي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران ومحاولة إشغالها بالحرب مع العراق، جعل من المرحلة التاريخية بين العامين 1982 و1984 مرحلة تغيير في الجيوبوليتيك لكثير من دول العالم في المنطقة، وأسست لمفهوم جديد في الصراع العربي الإسرائيلي عنوانه القدرة على الانتصار بالمقاومة.
في السادس من شباط من العام 1984 رئيس حركة أمل الاستاذ نبيه بري يعلن انتفاضة شعبية لإسقاط اتفاق 17 أيار، القوى الوطنية تؤيد وتساند، الجمهورية العربية السورية بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد تدعم وتبارك، شباب حركة امل يسيطرون على كافة المناطق في بيروت الغربية والمناطق الأخرى، السلطة الفئوية تعجز عن المواجهة، العدو الاسرائيلي لا يجرؤ على التدخل، إتفاق 17 أيار يسقط بإرادة شعبية موحدة، إنه لبنان الجديد، إنه فجر المقاومة وانتصار العروبة.
يحق للقوى السياسية أن تقيّم انتفاضة 6 شباط بحسب موقع كل منها في الصراع العربي الاسرائيلي، ويمكن لأي صحفي أو كاتب سياسي أن يقرأ في انتفاضة 6 شباط ما يراه متناسبًا مع تحليله وتفكيره، ولكن، وفي كل المواقف والكتابات حول انتفاضة 6 شباط لا يمكن أن نجد ما يخالف فكرة تغييرها للواقع السياسي في لبنان والمنطقة العربية، فكرة تغيير بوصلة لبنان من العصر الاسرائيلي إلى العصر العربي المقاوم، بل وتغييرها لمجرى الصراع العالمي في الشرق الأوسط لصالح المقاومة والممانعة وما تبعه من انتصارات لاحقة أدت إلى هزيمة المشروع الصهيوني وانسحاب العدو الاسرائيلي من لبنان.
مهما عجنت اللغة العربية من مفردات لوصف انتفاضة 6 شباط لن تعطيها كامل حقها، ومهما أرّخ المؤرّخون من إنجازات هذه الانتفاضة يبقى التاريخ متعلقًا بما قاله يومًا الرئيس نبيه بري بأن “إيماننا يجعلنا نغيّر كل المعادلات”.