بقلم المستشارة الإعلامية للجنة المتابعة الرسمية لقضية الإمام الصدر مريم قنديل- صحيفة النهار
من يومياتنا المعتادة أن يصلنا كثير من الروايات والاقتباسات المنسوبة للإمام الصدر، فنتأكد من صحتها، وننفي ما هو غير صحيح منها وتصحيح الخطأ، أو التأكد من المصادر وغيرها من الأمور.
أحياناً يكون “اختراع” القصص عن الإمام، أو نسب كلام من بنات أفكار الكاتب للإمام، لا يحمل أبعاداً، أو أنه ليس جزءاً من مشروع. لكن غالباً ما يكون هناك غايات وتوظيفات لهذه “الاختراعات”، تنتجها غرف متخصصة لها أهداف سياسية قريبة أو بعيدة المدى. والمثير للريبة أن هذه “الاختراعات” تأتي بحسب متطلبات السجالات السياسية، لكن الأخطر هو محاولة توظيف المفردات لشق البيت اللبناني الداخلي.
وفي مراجعةٍ لمقتطفات من كلمة وتعليقات الإمام الصدر في المؤتمر التأسيسي الأول للحركة عام 1976، المنعقد في مؤسسة جبل عامل المهنية(1)، نجد أنَّ الإمام يتحدّث في محطات عدة عن عدم التمحور. فيقول ما حرفيته: “من خلال هذه المنطلقات، نحن حتى الآن نتجنّب التمحور، يعني نتجنب أن ندخل في علاقتنا مع دولة ضد دولة. يعني نحن غير مستعدين أن ندخل في المحاور العربية المتصارعة في الساحة اللبنانية، ونأخذ منها مواقف…”. يكمل الإمام ليتحدث عن الثورة الفلسطينية فيقول: “الثورة الفلسطينية إذا أرادت أن تتمحور من خلال الدول العربية التقدمية والرجعية (بحسب توصيفها)، معنى ذلك أنها حرمت نفسها من إمكانات مالية وقتالية وإعلامية، وحتى إمكانات سياسية في العالم”(2).
يعود الإمام لاحقاً ليؤكد وجهة نظره من عدم التمحور نظراً لآثاره السلبية، فيقول: “… التمحور العالمي خيانة على الثورة، والتمحور العربي خيانة على الثورة… نحن في العالم العربي لا نتمكن من التمحور بأي ثمن كان، لأننا في الجنوب المهدد، والجنوب نحن نخشى عليه…”، ليصعّد تحذيره قائلاً: “من الحرام والخيانة على الحركة، حركة المحرومين، ومسؤوليتها الأولى حماية الجنوب من الاحتلال… لا تمحور لدى حركة المحرومين إطلاقاً…”(3).
عدم التمحور الذي تحدّث عنه الإمام الصدر والذي يعني عدم الدخول في المحاور المتصارعة والمتناحرة حمايةً للمقاومة، يختلف كلياً عن مفهوم الحياد، وهو مفهوم سياسي يتعلق بالعلاقات بين الدول. فالحياد كمفهوم، عرَّفته الأمم المتحدة بأنه “الوضع القانوني الناجم عن امتناع دولة عن المشاركة في حرب مع دول أخرى…”، أي أن قرار الحياد السياسي يتعلق بعدم المشاركة في الأعمال الحربية بين دولٍ متناحرة ومتنازعة.
فهل يعقل أن يكون الأمام الصدر الذي قال: “السلاح زينة الرجال”، وأسس أول مقاومة سبقت الاحتلال لمواجهة العدو الصهيوني، مع فكرة الحياد في الصراع مع العدو؟
وهل يعقل أن من تحدّث عن تحرير القدس على يد المؤمنين الشرفاء، وجال العالم لأجل حماية المقاومة الفلسطينية، أن يكون مع الحياد في الصراع مع العدو؟
وهل من المنطقي أن ننسب للإمام الصدر مؤسس مجتمع المقاومة، والمعسكرات التدريبية الأولى التي درّب فيها شباب “أمل” لمواجهة العدو الصهيوني كي لا يكون مصير الجنوب كمصير فلسطين، والذي قال: “إذا التقيتم بالعدو الإسرائيلي قاتلوه بأسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعاً”، أقوالاً عن الحياد ونوظفها في خدمة مشروع سياسي يروّج لمفهوم الحياد مع العدو الإسرائيلي؟
وما زاد في خطورة هذه الحملة، أن البعض أيضاً لجأ إلى اقتباس قول للإمام، وأكمله هو ضمن الاقتباس، من دون مراعاة الأمانة التي هي من القواعد الأساسية للنقل. وهنا مكمن الخطر أكبر بكثير! فالمتصفح إذا وضع الكلمات المفتاحية للقول المنسوب للإمام، ووجد أن الجزء الأول صحيح وحرفي، سيظن أن باقي القول هو حتماً للإمام! وفي هذا الإطار، ورد في الأسبوع الماضي قولٌ منسوب للإمام الصدر، أنقله حرفياً:
(من أقوال الإمام موسى الصدر: كل من يريد أن يتحرر من استعمار، ومن عدوان، ويلجأ إلى استعمار آخر أو عدوان آخر، فهذا لم يعمل شيئاً ولم يحرر شيئاً. بالله عودوا إلى جذوركم وأريحوا لبنان، ولا تقتلوا الإمام الصدر مرتين، وحده الحياد يحمي لبنان من الأطماع القديمة الجديدة والمتجددة).
أما كلام الإمام الصدر الصحيح والدقيق فهو الذي ينتهي عند كلمة “شيئاً”. وحرفية الكلام هي التالية:
“في هذا الوقت لا نريد لعودتنا إلى مجدنا، ولإزالة آثار العدوان ولعودة الكرامة وللوصول إلى المقام الذي أراده لنا، لا نريد شيئًا بمقدار ما نحتاج إلى التحرر الذاتي النفسي الخلقي، إلى الإباء، إلى عدم الذوبان، إلى عدم الخنوع، إلى عدم الاستسلام لنداء السلطة، لنداء الأجنبي شرقيًا كان أو غربيًا. نحن بحاجة إلى بشر اليوم، كوِّنْ بشرًا بعد ثلاث وعشرين سنة أو أقل، لأن العصر عصر السرعة، تعود إلى ما عادت إليه الأمة كما تعرفونها. فنحن قبل كل شيء نحتاج إلى التحرر من هذا الخنوع والاستسلام. أليس هذا من الخنوع أيها الإخوان أننا نريد أن نتخلص من عدوان عدو غاشم فنستسلم لعدو غاشم آخر؟ شهد الله لا أقصد فئة، كل من يريد أن يتحرر من استعمار ومن عدوان ويلجأ إلى استعمار آخر أو عدوان آخر فهذا ما عمل شيئًا. إنما كما بدأ النبي “محمد” نعتمد على أنفسنا في أول تكوين هذه الأمة…”(4).
فهل في كلام الإمام هذا دعوة للحياد ومن أين أتت الكلمات التي تلت كلام الإمام؟ ولأي غايةٍ أضيفت ضمن الاقتباس نفسه؟
إنَّ لعبة المصطلحات خطيرة جداً، لكن التوظيف السياسي لهذه المصطلحات أخطر بكثير، بخاصة إذا ترافق مع حملات إعلامية منظمة وممنهجة.
من أجل كل ذلك، علينا أن نتحلّى بكثيرٍ من الوعي، وأن نتأكد من مصدر الأقوال والأحاديث والروايات المنسوبة للإمام، كي لا نكون شركاء في هذه الحملات التي باتت معروفة المصادر والوظائف، والتي وإن كانت تقصد الاستثمار السياسي للمنتوج الفكري للإمام، وعباءته الجامعة للوطن، وشخصيته التي يجمع على حبها اللبنانيون، فإن هذه الحملات تؤدي إلى تحريف الإنتاج الفكري له والذي يشكل خشبة خلاص وطننا في كلّ زمان!
1-مسيرة الإمام موسى الصدر، الجزء الثاني عشر، محاضرات في التنظيم والسياسة والإقتصاد، ص 107؛ أو مراجعة التسجيل الصوتي للمؤتمر من محفوظات حركة أمل.
2- الجزء نفسه، ص 145.
3- الجزء نفسه، ص 146.
4- تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، (د.ت)، محاضرة تحت عنوان الفيل وقريش 3.