كتبت صحيفة “الأخبار” أن لرئيس حزب القوات سمير جعجع، مقولات لم يكن يظن أنها قد تنقلب عليه. فمن قال: «لا يمكن الحزب أن يكون كغيره ويدخل الحكومة تحت شعار المعارضة من الداخل»، هو نفسه الذي يريد أن يصوّت ضد الموازنة من الداخل، رافضاً الخروج إلى المعارضة
أعلنت «القوات» أنها لن تكون جزءاً من المؤيدين للموازنة في مجلس النواب، بعدما سبق أن أيدتها في الحكومة. وهي، بخلاف ما تكرر، لم تتحفظ على الموازنة عند التصويت عليها. صحيح أنه كان لوزرائها ملاحظات واعتراضات على بعض البنود خلال النقاش، وحتى تحفظات، أسوة بكل الكتل، إلا أن سقف هذه الاعتراضات كان حينها: «إذا طُرح التصويت فستصوّت القوات إلى جانب الموازنة»، على ما قالت الوزيرة مي شدياق في أيار الماضي. كلام شدياق جاء على خلفية مناقشة ما يُسمى «ورقة باسيل»، ووضع في إطار الحرص على إظهار فعالية القوات التي «طرحت الكثير من المواد التي وردت في الورقة قبله». النقاش كان هنا تحديداً: مَن يسبق مَن، القوات أم التيار؟ وبالفعل، أقرت الموازنة في المجلس ولم يُسمع عن القوات اعتراضها عليها، وهو ما أكده وزير المال بإشارته إلى إقرار الموازنة من دون وجود أي تحفظ. التحفظ جاء بعد إقرار الموازنة، وبتصريح من الوزير غسان حاصباني، لكنه لم يكن قد ترجم في المجلس.
حتى التحفظ سقط عملياً، عندما خرج النائب جورج عقيص، بعد يوم واحد، ليحسم الجدل، قائلاً: «لا شك في أنه سيسجل للقوات أنها لم تعرقل مشروع الموازنة في الحكومة، وأنها لم ولن تمارس الحرد السياسي إذا لم يؤخذ بالاقتراحات التي قدمتها». أكثر من ذلك، قال عقيص إن «تكتلها النيابي ينتظر إحالة الموازنة على المجلس ليمارس الإيجابية». في مجلس النواب ذكّر النائب ألان عون بما قيل، فردّ عقيص بأن ما تفعله القوات ليس حرداً، بل حق ديموقراطي.
بعد الحكومة، انتقلت الموازنة إلى المجلس النيابي، حيث كان نواب القوات جزءاً فاعلاً من النقاشات التي أفضت إلى تعديل 65 مادة من أصل 99. ذلك لم يكن كافياً. اجتمعت كتلة الحزب والهيئة التنفيذية، في تلك الأثناء، و«قرّرتا بعد ست ساعات من النقاش التصويت ضد الموازنة». يجزم النائب جورج عدوان بأن الحريري كان على اطلاع على موقف كتلة «الجمهورية القوية»، وقد أُبلِغ به رسمياً عندما زاره وفد منها في التاسع من الشهر الحالي (بعد يومين من اجتماع الكتلة).
لم تبدأ المواجهة العلنية، إلا عندما أعلن رئيس القوات سمير جعجع، أن الموازنة «ما بقي فيها مال ولا موازنة في لجنة المال والموازنة»، معتبراً أنها «عادية جداً ولن تستطيع أن تؤدي المطلوب منها، وكان من المفترض أن تتواكب مع مجموعة إصلاحات». لكن هذا الكلام، وجد من يردّ عليه من داخل الكتلة نفسها. لم يشأ عدوان تسخيف كل ما أنجزته اللجنة من تعديلات على الموازنة، هو الذي كان من الدائرة الضيقة التي عملت بشكل متواصل على تنقيح المشروع. لذلك، أعلن أن «التعديلات على بعض المواد ذهبت باتجاه إصلاحي»، قبل أن يتحول هذا الموقف إلى مبرر للتمييز بين الإصلاحات التي تتضمنها الموازنة وتؤيدها القوات، وبين الاعتراض على جوهر المشروع، انطلاقاً من أن «القوات تطالب بإصلاح بنيوي، لكنها لم تتمكن من تغيير المقاربة في مجلس الوزراء، فسعت إلى المشاركة في نقاش كل مادة بمادتها». لم يكن هذا كافياً بالنسبة إلى عدوان، لأن «المطلوب بدل الانكار الذي تمارسه كل الكتل، توصيف الداء وعلاجه جذرياً، من خلال البدء بالمحميات، من مصرف لبنان إلى المرفأ والتهرب الضريبي والجمارك».
مرة جديدة يتجدد الجدل. هل فعلاً تحفظت القوات على الموازنة في الحكومة؟ لم يسمع أحد بهذا التحفظ من قبل. لكن حاصباني كرر أمس أن «القوات تحفظت على الموازنة… والنواب اليوم يترجمون هذا التحفظ برفض الموازنة بالمبدأ، فشنت حملة علينا ممن يريدون تخبئة رؤوسهم في الرمال».
الحملة التي يتحدث عنها حاصباني، كما تحدث عنها كل النواب القواتيين، لها ما يبررها. فما فعلته القوات بدا أقرب إلى المخرج من الإحراج الذي يسببه عدم قدرتها على تحقيق أي إضافة نوعية من خلال وجودها في الحكومة. وهو وجود يأكل من رصيدها أكثر مما يفيدها. لذلك، لم يخرج، حتى الآن، من يقتنع بأن أسباب الاعتراض على الموازنة تقنية وتتعلق بالخلاف على المقاربات الاقتصادية.
القوات تراكم الخسائر السياسية، والمعارضة من الداخل لا تنقذها
ثمة ثقة بأن ما فعلته القوات إنما يشكّل محاولة خجولة للوقوف في وجه سطوة الوزير جبران باسيل ونجاحه في تحويل «الشريك المسيحي» إلى مجرد «كومبارس» في مجلس الوزراء. ولذلك يعيش الحزب أزمة جدية، تتعلق بالصراع المسيحي – المسيحي. فباسيل ينجح في تسجيل النقاط على القوات في كل ما يفعله، وقد تحول إلى الآمر الناهي في الحكومة، والممثل الوحيد للمسيحيين في إدارة البلد، ودائماً تحت شعار مؤذٍ للقوات يتعلق بتحصيل حقوق المسيحيين في السلطة. في المقابل، فإن القوات لا تدخل معركة معه إلا تخسرها، وهي تنتظر خسارة جديدة في التعيينات. وهذا الأمر، إنما يشكل عبئاً عليها، يضاف إلى العبء الذي تشكّله «بطولات» باسيل المناطقية. «أداء سياسي غير موفق»، تقوم به القوات، التي كان يمكنها الاعتراض على الموازنة على طريقة «حزب الله»، الذي رفع الصوت عالياً في وجه المحميات المالية، وأولها مصرف لبنان، من دون أن يشكل موقفه هذا عائقاً أمام تأييده للموازنة. كان حزب الله واضحاً في تأكيده أنه لا يريد أن يعرقل في الحكومة، على أن يكون الموقف مختلفاً في مجلس النواب. وعملياً، هذا ما حصل. نجح الحزب، بالتعاون مع القوات وغيرها من الأطراف، في تعديل الكثير من المواد، ولم يتمكن من تعديل أخرى. لكنه أيد الموازنة في النهاية مع تحفظه على مضمونها.
حسابات القوات ليست كحسابات حزب الله. في حسابات الربح والخسارة المرتبطة بوجوده في السلطة، تميل الكفة إلى الخسائر، ولأن الأوراق التي يمكن لعبها محدودة، قد يكون الاعتراض على الموازنة، بمثابة جائزة الترضية لمن قرر ممارسة المعارضة من الداخل، خلافاً لأدبياته. لكن مشكلة القوات لم تعد مع باسيل وحده. خطوتها تصيب الحريري مباشرةً. وهو لذلك لا ينفكّ يعبّر عن امتعاضه في صالونات المجلس، إضافة إلى اعتراضه على كلمة عدوان في الهيئة العامة.
لماذا تتمسك القوات بوجودها في الحكومة؟ يجيب عدوان بأن «القوات ترى أنها أكثر فاعلية في الحكومة من خارجها، وعندما تجد أنها لم تعد كذلك، فلن تتردد في الخروج». إلى ذلك الحين، فإن الفاعلية تلك لا يبدو أنها ستنعكس على سلوكها السياسي، الذي يجعلها، في المجلس والحكومة، تنافس بولا يعقوبيان وحزب الكتائب بالحد الأقصى.