الأخبار ـ هيام القصيفي
ثمة سؤال أساسي يشغل بال أجهزة أمنية وعسكرية: كيف تفلّت فجأة الوضع الأمني إلى الحد الذي باتت هذه الأجهزة مستنفرة لمواجهة تطورات داخلية لم تكن في الحسبان؟
في المجلس الأعلى للدفاع الذي انعقد على خلفية أحداث الجبل الأخيرة، لم يدافع رئيس الحكومة سعد الحريري عن القوى الأمنية فحسب، بل أيضاً كان يوجه الاتهام إلى القوى السياسية قاطبة بأنها مسؤولة عن أفعالها وعن كل ما يجري من أحداث أمنية داخلية. من هنا يمكن قراءة التطورات في الأسابيع الأخيرة، على أنها أصبحت لافتة وخطرة إلى الحد الذي سارعت معه معظم دوائر الديبلوماسية الغربية لإجراء اتصالات سريعة، لاستشكاف ما جرى وتداعياته. يتوقف الديبلوماسيون في استفساراتهم منذ حادثة البساتين، ليس على تفاصيل ما جرى، بل على كيفية مواكبة الوضع وحصر تداعياته. وهذا ما كان محطّ رصد واهتمام من جانبهم في شكل دقيق. والمشكلة أنه فيما لا تزال آثار حادثة الجبل حية، جاءت «الانتفاضة» الفلسطينية، من خلال تحركات احتجاجية ميدانية لتشغل القوى الأمنية والعسكرية وتستنفرها، وتراكم أعباءً إضافية.
في حادثة الجبل، أخذ أكثر من طرف مدني وأمني على الجيش عدم تحركه في شكل فعال يوم الحادثة وبعدها. أُعطيت ملاحظات كثيرة، ومنها أمني، على عملية الانتشار، ومنها سياسي، على ملامح رئاسية تقف خلف موقف قائد الجيش العماد جوزف عون.
لا يزال سؤال الجيش نفسه الذي طرحه مسؤولوه في المجلس الأعلى للدفاع: من أين يسحب الجيش قطعاته لنشرها في الجبل؟ من طرابلس حيث استهدف أخيراً، أم من منطقة عمل القرار 1701 واليونيفيل، أم من البقاع والحدود، أم من بيروت؟ لا يزال السؤال من دون جواب من أيٍّ من المسؤولين السياسيين، ولا يزال الجيش يصرّ على أنه تصرف كما يجب يوم حادثة الجبل وبعدها. في الأيام الثلاثة الأولى للحادثة أبقى سريتي المغاوير اللتين كانتا في المنطقة، وسيّر دوريات مكثفة في الجبل، وبدأ ملاحقة المتورطين بالحادثة في موازاة اتصالات مكثفة لتسليم جميع المتورطين. بعد يومين، نفذ انتشاراً أمنياً في كل لبنان. رغم الانتقادات التي وُجهت إليه حول هذا اليوم، في مناطق بعيدة عن مكان الحادثة، ثمة إصرار في المؤسسة العسكرية على أن اليوم الأمني هو رسالة «في السياسة» بأن الجيش ليس لفريق ولا لطائفة. لا يمكن أن يتدخل الجيش في الجبل وينفذ خطة أمنية تحت شعار حماية «المسيحيين» في مواجهة «الدروز». بالنسبة إليه، ما حصل خلاف سياسي بين حزبين، وليس خلافاً طائفياً، وهو لا يمكن أن ينجرّ إلى لعبة طائفية، ويتحول مع طرف ضد آخر. وزيادة العديد وتنفيذ خطة أمنية في الجبل، تعنيان زيادة منسوب الخوف وإظهار الجبل وكأنه ساحة مواجهة طائفية، والأمر ليس كذلك، والجيش لن يُسهم في إذكاء هذا الجو.
ولأن الخلاف سياسي، فإن الحل يجب أن يكون سياسياً في الدرجة الأولى، وليس عسكرياً، بالمعنى المباشر. ولأن الجيش نفذ ما عليه من القيام بمداهمات وتحويل الموقوفين إلى التحقيق، فإن الكرة اليوم في الملعب السياسي. ومنذ أن تحول المجلس العدلي، الحلقة الأهم في مسار معالجة قضية الحادثة، لم يعد للجيش دور مباشر فيها، لكنه لا يزال يتابع الاتصالات في شأن تنفيس الاحتقان والوصول إلى حل. ومن الواضح أن من اقترح في البداية المجلس العدلي، بدأ يعي أن الأفق مسدود، لأن التمسك به أدى إلى تعطيل مجلس الوزراء، بعد تمسك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي برفضه ووقوف الرئيس سعد الحريري معه. والحريري اليوم بات، بعد عودة السعودية إلى الواجهة، أكثر تمسكاً بموقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ولا يمكن أن يتخلى عنه. من هنا فإن الحل بعودة الحكومة إلى اجتماعاتها، لن يكون من باب المجلس العدلي، كما تتداول الأوساط المتابعة لحوارات الدائرة. تدخل رئيس الجمهورية مجدداً بقوة من باب إيجاد حل واقعي، وقانوني في الوقت نفسه، بغية تسريع عودة الحكومة إلى ممارسة اجتماعاتها. إيفاده الوزير سليم جريصاتي والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم إلى رئيس الحزب الديموقراطي الأمير طلال أرسلان، يعني فتح كوة في جدار الأزمة. والحل بات من المرجَّح أن يعود إلى النقطة التي اقترحها الرئيس نبيه بري، وتكمن في خياري القضاء العسكري أو القضاء العادي وإجراء التحقيقات مع كافة المتهمين قبل جلاء مصير المجلس العدلي. لأن مغامرة التصويت في مجلس الوزراء لن يكتب لها الحياة.
المشكلة الأساسية لا تزال في إصرار أرسلان على رفض تسليم المتهمين، وهي الحلقة الضرورية لإجراء التحقيقات وإقفالها، وهو ما يفترض أن يحصل على ثلاثة مستويات: إما محاكمة المتهمين وجاهياً وتوقيفهم، وإما إطلاقهم أو محاكمتهم غيابياً. علماً أن الوقت يدهم الجميع، ولا سيما أن هناك موقوفين منذ يوم الحادثة، ولا يمكن أبقاؤهم موقوفين من دون ختم التحقيق. وهنا تكمن أهمية تدخل رئيس الجمهورية مجدداً على خط إيجاد مخرج مشرّف، وأهمية استيعاب أرسلان أن رئيس الجمهورية الذي غطى موقفه هو نفسه الذي يريد حلاً للأزمة.
في موازاة حادثة الجبل، كان «اشتعال» المخيمات في الطريقة المدروسة التي جرى فيها، منهكاً للقوى العسكرية التي استنفرت لمنع انفلات التحركات، إلى جانب اتصالات مكثفة مع القوى المعنية من بيروت إلى صيدا، لمنع خروج الاحتجاجات إلى خارج دائرة أمنية يمكن حينها أن تؤدي إلى تفلّت حقيقي. كان الجيش يعرف من خلال الاتصالات أن القيادات الفلسطينية على كافة مستوياتها تريد ضبط الوضع. لكن ذلك لم يمنع الحذر، فاستنفر الجيش الفوج الرابع للتدخل، مع استدعاء سريتين إضافيتين، علماً أن الاحتجاجات اقتصرت على تحركات وتظاهرات وحرق إطارات بطريقة محكمة ومدروسة، ولم تطلق طلقة رصاص واحدة. لكن هذا لم يُلغِ التحسب من أي استغلال وضرورة ضبط الوضع الأمني جعلت الجيش متأهباً. كل ذلك على خلفية قرار سياسي، لم تعرف بعد كل حيثياته ولا الإحاطة الكاملة به. لأن أي قرار من هذا النوع، يفترض أن يُواكب بإطار سياسي شامل، إذ ينبغي أن يكون المعنيون على دراية بتداعياته. والخطورة التي كانت مدار بحث ومتابعة داخل الأجهزة الأمنية، تكمن في السيناريوات حول إمكان توسّع الاحتجاجات، إلى العمال السوريين، وكيف يمكن أن يضبط وضعهم وهم موزعون في مناطق سكنية وداخل الأحياء، على عكس ما هو واقع حال الاحتجاجات الفلسطينية في مناطق محددة. وهو ما دفع الجيش إلى تكثيف اتصالاته وتحركاته الميدانية تحسّباً. وهذا الأمر صبّ أيضاً لمصلحة سؤاله الأساسي: «من أين نستدعي وحدات إضافية، وكيف نغطي كل مناطق التوتر، علماً بأن عودة الأمن إلى الواجهة في أقل من شهر، لم يكن هذه المرة من طريق الإرهاب أو أي طرف خارجي، بل بفعل سياسات محلية بحت؟».