د. سامر ماهر عبدالله
يبدو جليا أن المسألة اللبنانية هي أكبر من تشكيل حكومة ، وهذا الأمر لا يستنبط من مخاض التشكيل الحالي ، بل من مجمل عمليات التأليف التي تلت الانسحاب السوري من لبنان ، حيث كانت عنجر ضابط إيقاع المشهد السياسي الداخلي .
المشهد السياسي الراهن في لبنان وصل إلى ذروة الركود ، فالأوراق السياسية التقليدية لم تعد ابدا صالحة للتداول ، والتنظيم الاقتصادي والمالي والنقدي والمصرفي خرج عن السيطرة بشكل شبه كامل ، وأصبح اليأس هو العامل الوحيد المسيطر على المزاج الشعبي ، وانكشف البلد أمام المزيد من التدخلات الخارجية .
إضافة إلى ذلك ، فقد اتضح للخارج ان الحكم في لبنان مسؤول عن عجز الدين العام ، وعن إنهيار الليرة ، وعن الجوع والفقر الذي أصاب اللبنانيين . ولذلك فإن الجهات المهتمة بلبنان قد إنقسمت إلى ثلاث :
١- جهات تشترط الاصلاح والتدقيق كشرط للمساعدة .
٢- جهات تشترط امتيازات في لبنان للمساعدة .وهذه الشروط قد تؤثر على القرار الإقتصادي في البلد .
٣- جهات تربط مساعداتها بفك الارتباط بين الحكومة والمقاومة .
إضافة إلى ذلك ، فإن مطلب واشنطن الأساسي هو – وإن يكن غير معلن – إنضمام لبنان إلى قافلة الدول التي طبعت مع الكيان الصهيوني .
يصح القول أن الفساد قد أدى إلى فشل الدولة بإعتراف الداخل والخارج . وهذا الفساد أصبح أقوى من القضاء وأقوى من السياسة وحتى أقوى من الصيغة اللبنانية نفسها وهنا مكمن الخطورة .
أن تفشل وتفلس دولة كلبنان فيها كفاءات علمية هائلة ، وفيها ديمقراطية ( وإن كانت طائفية ) ، وفيها نظام حر استطاع الربط بين اللبناني المقيم واللبناني المغترب ، فهذا يوجب إعادة النظر بكل الوسائل اللبنانية لمواجهة الأزمات .
إن لبنان اليوم بحاجة إلى إستنباط وسائل إستثنائية حتى يتمكن من البقاء . وهو بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة ، وإلى وسائل تدخل قضائية متطورة تتمتع بحماية وبغطاء واسعين .
هناك من طرح فكرة التوجه شرقا كحل للركود الإقتصادي الراهن . ولكن حتى إذا ذهبنا إلى أقصى الشرق ، إلى الصين مثلا ، فهي لن تساعد دون إصلاح .
وإذا ذهبنا إلى النظام النقدي العالمي وإلى صندوق النقد الدولي ، فهو يشترط ايضا الإصلاح المالي والتدقيق الجنائي على الأقل .
لقد أصاب الفساد والفشل سمعة لبنان ، خاصة بعد تعثر كافة مصارفه وحجزها ودائع اللبنانيين مقيمين ومغتربين ، إضافة إلى ودائع غير اللبنانيين الذين وثقوا بنظامنا المصرفي ، ورغم ذلك لم يحصل أي تغيير في السياسة النقدية ، ولم تحصل أي عملية محاسبة ، وكأن شيئا لم يكن وكأننا في شريعة الغاب.
سيذكر التاريخ أن تقاعس الحكم عن حماية الودائع في البنوك ، ليضاف إلى مسلسل الفساد الطويل الأمد ، هو الذي أنهى الصيغة اللبنانية وأسقطها بالضربة القاضية ، وهو الذي سينهي سياسة عمرها ٣٠ سنة أو أكثر .
وسيذكر التاريخ أيضا أن الاستهتار المطلق من قبل الحكم ،ومن قبل القضاء ، بموضوع الفساد هو الذي أعلن إنهيار الصيغة اللبنانية دون أن يكون البلد مستعدا لمناقشة صيغة جديدة ، في ظل إصرار كثر على رفض مناقشة فكرة الدولة المدنية .
الفساد أوصل البلد إلى المجهول ، في ظل إقليم ملتهب ، وفي ظل داخل منقسم ، وفي ظل إعادة الغرب رسم خارطة المنطقة بشكل تعسفي وعبر الارهاب والفتن المذهبية .
في هذه اللحظة بالذات أصبح مشروع إستئصال الفساد مطلب شعبي ملح وعابر للطوائف ، فلبنان السابق لن يعود دون إصلاح ، ولأول مرة فرضت ثقافة الاصلاح المالي والإداري نفسها وتقدمت على ثقافة الاصلاح السياسي لأن الشعب جاع وتم إفقاره .
البلد أمام لحظة مصيرية ، في ظل إصرار كثر على مواجهة المقاومة بالفوضى ، وفي ظل حرص المقاومة على الاستقرار ، وفي ظل عجز السياسة عن الاصلاح ، وفي ظل تفشي الطائفية السياسية كما قبل إتفاق الطائف وأكثر ، وفي ظل التغير الديمغرافي بين اللبنانيين والنازحين بشكل كبير .
لم يعد يحتمل البلد الفراغ وتصريف الأعمال ،
كما أنه لم يعد يحتمل فساد وفاسدين ،
كما أنه لم يعد يحتمل طائفية وطائفيين ،
فأي تغيير ننتظر ؟