ليبانون تايمز _ سارة بشار الزين
“الكلمات الثمينة حين تخرج من كهوف أصحابها تكون ملكاً للريح .. الشعراء لا يسترجعون كلماتهم”
-بدر العتيبي
يبقى الشعر، من قبل ومن بعد، ملجأ الوالهين، وبابًا للتجلّي والخروج من الذات للدخول إليها بشكلٍ مختلف.
أيُّ سرٍّ حمل لنا كلّ هذا العمق؟ وأيُّ حزنٍ أشعل عبقريّةً كئيبةً مبكّرة في دمٍ طازج التدفّقِ والسيلان؟
“ما لا ينتهي”.. ديوانٌ للشاعر “حسن المقداد” والمكنّى بـ”اليتيم”، المتفرّد بروحه ونكهته، الشاب الذي تجاوز بحزنه عدد سنينه، وحلّق بتجربته الشعرية بدواوين ثلاثة حتى حفر عميقًا في الشعر اللبناني والعربي.
في ديوانه “ما لا ينتهي”، أربعٌ وعشرون قصيدة منها أربع قصائد تفعيلة وكأنّه وزّع ديوانه على أربعة أبواب، يفتتح كلّ باب بقصيدة تفعيلية يعتبرها المدخل الى عالم المجاز.
الديوان غنيّ ببحور مختلفة، وذاتيّة عالية، وفلسفة عميقة، وتصوير أنيق مدعّم بتراكيب الشاعر الخاصّة التي يرسم من خلالها الحداثة على طريقته وأسلوبه فيقترب من التفاصيل الصغيرة التي تشكّل عنده ميزة الفكرة والتعبير مع بعض التناص والترميز.
يتمسّك الشاعر بأصالة الحرف كابن بارٍّ، غير أنّه يعيش في الوقت نفسه تمرّدًا جريئًا وواضحًا، فيخرج من الرتابة الخليليّة ليضيف بعض التفعيلات عمدًا إلى البحر “البسيط” في قصيدة “رقصة مع الزلزال”، وكأنّه يحاول أن يُثبتَ إمكانيّة التحليق والرقص والتفلّت حتى في البناء العمودي، وكأنّه أيضًا يؤمن بمقولة الشاعر الروسي “رسول حمزاتوف”: الشعر دون التربة الأم شجرةٌ بلا جذور وطائرٌ دون عشُّ”، لذلك لست أرى هنا أنّ الشاعر يحاول أن يخدش هيبة البناء الخليليّ بقدر ما هو يسعى الى التجريب والتجديد رغبةً منه في كسر الغموض والرتابة البنيوية، لأنّ فكرة “اللامساس” للهيكل العمودي لا تدخل من ضمن قناعاته:
“ملّت من الشكلِ أفكاري أحاولُ أن
أغيّر الشعر أن أرتاحَ من قلقي
وأن أقولَ كلامًا كلّه عذِبُ
بلا حروفٍ بلا معنىً بلا لغةٍ
بلا انتسابٍ الى شيء بلا وجلٍ
بلا انتهاءٍ الى أن ينتهي التعبُ”
لا يُخفي الشاعر في ديوانه إصابته بالغربة، يتجلّى ذلك في كثير من نصوصه، وما بين السطور والأبيات والكنايات الجائعة الى وطنٍ ورحمٍ، وتلازمه هذه الحالة من نصٍّ الى آخر، وهو كما قال الأديب الشاعر “مريد البرغوثي”: “يصاب المرء بالغربة كما يصاب بالربو ولا علاج للاثنين .. والشاعر أسوأ حالاً لأن الشعر بحدّ ذاته غربة”.
“اليتيم” نصيرٌ للمرأة وحرّيتها، بل نصيرٌ لإنسانيّتها ووجوديّتها، وهي القضية التي تسمو على المادة من دون أن تتخلّى عنها!
ففلسفة “المقداد” تقوم على بناء العقل وتكثيف السؤال وتجريد المعنى من القيود واستمالةِ الإشكاليّات بل ابتداعها لفتح آفاق أكثر اتّساعًا وتحليقًا في المجاز. فالمرأة هي الفكرة عنده، يحتاج أن يكسر من حولها الأعراف والعادات والأقنعة والتأطير، ويحتاج أن يخرج تلك الفكرة من سجنها كي يدرك الشعر.. لأنه يؤمن أن رحم المرأة هو موطن الشعر الأوّل!
“كرمى لعذريّة اللاشيء سال دمٌ
لو مسّ وجه إله البحر لاحترقا
لن أغضب الآن… كان النصّ مضطربًا
وكنتُ أرمي على خطواته ورقا
وفي ضبابٍ بعيدٍ كانت امرأةٌ
سلَّ المسدّس من “ڤازاتها” الحبقا
وكان للموتِ ظلٌّ لستُ أنكرهُ
منذ افترقتُ وأمّي في من افترقا..”
أكثر ما يطالعك عند قراءة ديوان الشاعر حساسيّته المفرطة تجاه الأشياء والوجوه والأماكن والأزمنة والمواقيت وكذلك تجاه الألفاظ والعبارات، مما يظهر شيئًا من عبقريّته في الطرح بناءً على مقولة “شارل بودلير: “حساسيّة كلّ منّا هي عبقريّته”، ولكنّ “حسن المقداد” يزكّي المعنى على المبنى وإن كان يحاول على الدوام الحفاظ على الجرس والإيقاع الداخلي والخارجي للنص في الوقت نفسه، لذلك نجد الفكرة تأخذه بعيدًا فيشطح عن هدفه الى ما لا يطيق، وكأنّ النص يُحكم قبضته على أنفاس الشاعر فيرمي طوعًا شِباك البناء ليغرق في الاستشراف والترميز والمعنى.
يقترب الشاعر من لغته الخاصة بذكاءٍ وحذر غير مجازفٍ الى حدٍّ الإفراط والرهانات العشوائية، وغير حريصٍ الى حدّ التفريط والتردد، لكنّه يتقن اللعب والسير على الحبال المشدودة برشاقة محترفٍ يقارب الحكمة ببلاغة العارفين :
“لا تبخلوا بالملحِ فوق جراحكم
إنّ الجراح كما المعادن تصدأُ
يتأسن البشريّ من إحساسه
ولذا جميع الباردين تشيّأوا..”
لِيُتم حسن المقداد لونٌ جعله أقرب ما يكون الى محاكاة الروح حيث يتجلّى حرفه أكثر كلّما اقترب من حزنه وتوحّده ويتمه أكثر، وكلّما ذكر والدته من خلال بعض الإسقاطات أو غربته ووحدته وتمزّقه بأنيابِ الوقت.. فيرقص بإحساسه عاليًا ليعيش جوع الآخرين الى الحنّو والعطف والحاجة، ولكي يرتفع إنسانًا في الشعر!
“لا لا تقصّي شعرك الذهبيّ قد
يحتاجه الأيتام كي يتدفّأوا..”
تحليل قصيدة “الدخول الى مقام العزلة”:
مقام العزلة، وهو مقام يسبق مقام الصمت ثمّ مقام الخلوة، ويقتضي الانعزال عن جميع الخلائق والوجود، لمَ يختار الشاعر الدخول الى هذا المقام؟
على وزن البحر البسيط، والروي “العين” وهو حرف جهر يخرج بين الرخو والتشديد، ينحت الشاعر وجعه ليضع بين أيدينا لوحة لها مفاتيح ثلاثة، وأبواب ثلاثة، نلج كلّ باب بشكل مختلف عن الآخر، وبأدوات نقدية مختلفة، بين البنيوية والأسلوبية، فالنص مقسوم على ثلاثة أقسام.
في القسم الأوّل، نشهد أزمنة ثلاثة، بين “الآن” الحاضر و”كان” الماضي، و”غدًا” المستقبل، يفتتح الشاعر هذا القسم بصيغة الغائب، يتحدّث عن نفسه محاولًا توصيفها وتصنيفها وإنصافها بضمير الغائب “هو”، تبدأ القصيدة بالإقرار “الآن” بالهزيمة والتلذذ بها واستحسان “الجزع” بعد أن تكرّر عليه الخوف غير مرّة وانقطاع الأمل “مجدّدًا” بعد كل اقتراب من الوصول.
الشاعر كان قويًّا قبل تتالي الخسائر عليه، قبل الفقد الأعظم، “كان يخشى الشوكُ خطوتَه”، لكنّه بعد الفقد والهزيمة لن يجد من ينزع الشوك من عينيه، يستفهم الشاعر بحسرة ويعيش هذيانًا مؤلمًا مع حالة استشراف، يعيش الوجع لكنّه لم يبلغ مداه فيه بعد، يستشرف “غدًا” أكثر فجيعةً وألمًا، لكنّ لفظة “عفوًا” لافتة جدًا في هذا السياق ولا أظنّها جاءت عفو الخاطر، فهو يحاول أن يشير إلى أنّ ما ستؤول إليه حاله من خراب سيكتشفه بشكل عفوي من دون افتعال لأنّ ما كان يعيشه سابقًا كان عفويًّا الى حدِّ التغلغل بكل تفاصيل وجوده.
ولأنّ الشاعر مشبعٌ بهذه التفاصيل، “يُحرجه” حزنها كلّما كبر خوفه في أفكاره، والأفكار منبعها العقل، فإذا ما طال الفزع عقله، كان القلب هو الضحية! ولكن ما هو مسوّغ لفظة الحرج؟ لعلّ التفاصيل كانت تحييه لذلك يقف أمامها الآن عند الخوف والحزن منكسرًا وخجلًا من خسارته لها.
يبدأ الشاعر رحلة تناصّه.. يرمي من فزعه قلبه في حضن امرأةٍ جديدة، فندخل بذلك القسم الثاني من النص.
لا بدّ من الإشارة هنا الى أننا نتحدّث عن امرأتين، في البداية، المرأة كانت الأم، التي هي الأساس والسند، وقد خسرها، لذلك ألقى بقلبه طوعًا في اليم (خلافًا لقصّة موسى إذ ألقته أمّه) ليرتمي في أحضان امرأةٍ جديدة يجد فيها شيئًا من رائحة خسارته الكبرى.
في القسم الثاني، ينتقل الأسلوب من الغائب الى المخاطب (الالتفات)، ويصبح التناص أكثر وضوحًا والترميز أكثر مباشرة :
“لقد تعوّدت يا موسى على امرأةٍ
عليك ألا تلوم البحر إن صدعا”
العادة لا تعني هنا الرتابة، بل هي نوعٌ من الإدمان والعشق، لذلك كان يؤذيه مجرّد تأويل الحلم الذي حاول ابتكاره معها، وقد ذكّرني الشاعر حين قال “تبتكر حلمًا” بقول الشاعر التشيلي “بابلو نيرودا”: “ما هو الشعر إن لم يساعد على الأحلام؟”، فالحلم حاجة ضرورية وتأويله يبقى بيد علماء النفس والمتلقّين.
الشاعر يصطفي قلبه نبيًّا للشعر بعد أن ألقاه في اليم، لقد أصبح تحت سطوة الشعر وإرادته، والشعر يحتاج الى نزفٍ وقرابين، يريده طفلًا تائهًا وضائعًا ومشرّدًا “ولا منازل قد تؤويه إن رجعا”، و”قد” تفيد التقليل، لأنّ الشعر يريده بلا مأوى! ويريده مقتولًا ومصلوبًا على يديه كي يرتفع ويتجلّى بالحزن والوجع، فالحزن نحّاتٌ وشاعرٌ كبير. ونلاحظ هنا أن الشاعر يكرّر لفظة “كلّما” من دون مسوّغ لغوي أو نحوي لذلك الا الضرورة الشعرية.
يدخل الشاعر في دوّامة الغربة (ما قبل العزلة) وتضيق عليه الدنيا بعد الفقد وارتمائه في أحضان البحر، فيخبو وهجه ولا يعود كما كان ويشبّه حاله بـ”الأندلس” التي كانت تمثّل مجد العرب الساطع في أبنيتها وشوارعها والذي انطفأ فجأةً بعد خسارتهم لها، لذلك ما عادت “بيروت” تسع حزنه، فقد تجلّى وجه خسارته ووجه حبيبته في كلّ الوجود حاملًا الحرقة و”قسوة الغيبيّ” المحسوس والمتلبّس في الأشياء والطرقات والجدران، تاركًا في كلّ تجلٍّ رمية سهم موجعة وأثرًا مؤلمًا حدّ الاستجارة بلطف الله بعد أن افتقده يوم خسر والدته.
في القسم الأخير من القصيدة، ينتقل الشاعر الى صيغة الأمر في الكلام، في حركة تدلّ على الاستسلام للقدر :
“نم وافتقدها كثيرًا لا سرير هنا
إلا لشخصين لا عادا ولا اجتمعا”
وقد كان على الشاعر أن يقول “ما عادا وما اجتمعا” لأنّ الـ”لا” هنا تفيد الدعاء وهو قطعًا لا يدعو ولا يتمنى ألا يعودا ويجتمعا.
لم يبقَ له الا الحنين الساخن الحيّ الطازج الذي لا يفارقه، والذكريات والصوت، وذاكرة لفوضى الوسائد مما يدلّ على كثرة الحركة في الفراش قبلًا والأماكن وخسارة الليل المشدوه المخدوع.
ما عادت مقاومة الأسى تفيد بل إنّها ستقوى مع المنع، وسيكتمل المشهد أمامه غدًا عند الصحوة من بعد السكرة ليجد نفسه في مقام الوحدة من دون قهوة حبيبته، من دون كلماتها وصباحها “صباحك يغريني” (تضمين).
لذلك يختار أن يدخل طوعًا مقام العزلة عن كلّ من حوله، ممن تقفّوا جرحه ونزفه الشعري الوجوديّ، لأنهم مهما حاولوه لن يفهموا وجعًا لم يقاسوه من قبل، فحبيبته هي أكبر من تأويلهم ومما يظنّون، حبيبته هي يتمه وحساسيّته وتوحّده وعزلته وكلّ وجعٍ بنى عليه مملكة شعره!
القصيدة تنكّهت بالاستعارات الكثيرة “البدايات التي انكسرت” والتشخيص “يخشى الشوك خطوته” والمقابلة “تذكره مفرّقًا… تنساه مجتمعا” وغيره من الإيقاع التركيبي والتصويري الذي أثرى النص وزاد من جماليّته. وكذلك تعمّده لتكرار بعض الحروف لما فيها من نغم ووقع كحرف “القاف” الذي تكرر ٤ مرات في البيت العشرين لأنّ ثقل حرف القاف يشير الى ثقل حالة الأسى التي يمرّ بها.
“حسن المقداد” شاعرٌ متفرّدٌ بدفق إحساسه، ساحرٌ بصدقه وشفافيته وتعاطيه مع جرحه الشعريّ اللغويّ، ومن يقدّم مثل هذه القرابين، سيحمله الشعر حتمًا على أكتاف الإبداع والسموّ والخلود في ذاكرة الأدب العربي.
وهنا نصّ القصيدة:
من حقّهِ الآن
أن يستحسن الجزَعا
مجدّداً
طال حبلُ الحلم وانقطَعا
هذا الذي كان يخشى الشوكُ خطوتَهُ
من ينزع الشوك من عينيه إن وَقَعا؟
غداً يحسُّ بما للفقد من قلقٍ
غداً سيدرك عفواً أنّه فُجِعا
غداً
تعودُ البدايات التي انكسرَت على الشبابيك
حيث الأغنيات دُعا
ويكبُرُ الخوف في الأفكار
يحرجُهُ حزنُ التفاصيل
يرمي قلبه فَزِعا
لقد تعوّدت يا موسى على امرأةٍ
عليك أن لا تلوم البحر إن صُدِعا
يؤذيك؛
لا تبتكر حلما تؤوّلهُ
كل التآويل لن تجدي ولن تَقَعا
يريدكَ الشّعرُ طفلاً لا طريق له
ولا منازل قد تؤويه إن رَجَعا
يريدك الشّعرُ مقتولاً على يدهِ
وكلّما ازددت حزناً
كلّما ارتَفَعا
ضاقت عليك
وزاد البحرُ غربتها
لا أنت أنت
ولا أنت الذي سَطَعا
منذ افتقدت بلاداً ذات أندلسٍ
لم يترك الحزنُ في بيروت متَّسَعا
لوجهها حرقةٌ قصوى
إذا خطرَت
ولم تكونا على ذات الرّصيف معا
لوجهها قسوةُ الغيبيّ
تذكرهُ مفرّقاً
ثمَّ لا تنساه مُجتمِعا
كأنّهُ يلبس الجدران والطرقات
لم يكن نرجسيّاً
لم يكن بَشِعا
لكنّهُ كان يرمي كلَّ أسهمه
وكلُّ سهمٍ يخلّي خلفهُ وَجَعا
فمن يجيركَ من هذي السّهام إذن
ومن يثبّتُ لطفَ الله إن رُفِعا؟
نم.. وافتقدها كثيراً
لا سرير هنا إلّا لشخصين
لا عادا ولا اجتَمَعا
نم وافتقدها
على الشبّاك أخيلةٌ لصوتها
وحنينٌ ساخنٌ لَمَعا
فوضى الوسائد
صارت محضَ ذاكرةٍ
وليلك الآن مشدوهٌ كمن خُدِعا
فلا تقاوم أسىً في الحلقِ تمنعُه
يصير أقوى وأقوى كلما مُنِعا
غداً
ستصحو بلا فنجان قهوتها
بلا “صباحكَ يغريني إذا طَلَعا”
فاكتب لها
واعتزل من حاولوك
ومن تتبّعوا جرحكَ الشعريّ كيف سَعَى
قاسيتَ موتك قبل اليوم
هم سمعوا
ولا يقارن من قاسى بمن سَمِعا