الكاتبة سارة بشار الزين – خاص
“إن لم تستطع أن تشارك بصنع الجمال، عليك على الأقل أن تحتفي به”.
-الأديب والكاتب السعودي محمد الرطيان.
نحتفي اليوم بالسحر والشعر والجمال مع شاعرة لبنانية حفرت اسمها بوجع القصيدة ويتمها، بروحيّتها العالية وشفافيتها الفريدة وسهلها الممتنع، وبأناقة الحرف وانسيابيّة الأبيات وتدفّق الشعور وتحليق المجاز عندها.
الشاعرة “آيات جرادي” تطلُّ علينا من “شبّاك سلوى” صوب عالمٍ مترفٍ بالنقاء والصفاء والبياض، تشوبه غيومٌ رمادية ملبّدة باليتم والحزن، لتقدّم وجعًا خالصًا ونزفًا زكيًّا وقربانًا طاهرًا للشعر.
تتفرّد الشاعرة بلوحاتها الهادئة وبصْمَتِها المرهفة وعمقها الفكريّ الذي يُضيف الى القصيدة بهارات السؤال ومهارات التفتيش عن وعي الوجود والبقاء والحياة.
تحمل القضية الفلسطينية وتقدّمها بنصٍّ سرديٍّ شاعريٍّ، ثمّ تعود فتتّكئ على وجعها، بل على وجع الأنثى المثقلة، الأنثى الوطن، والأنثى المجاز:
في آخرِ الكون أنثىً تغزلُ الوجعا..
تُذكي الصباحَ إذا ما ليلهُ هجعا…
لا ينتهي الخيطُ؛ يبدو في أصابعها
مضيق روحٍ يشدُّ العزمَ ما اتّسعا..
أنثىً تخبّئ في كمِّ الزمان يداً
حتى تصافح كلّ المتعبين معا..!
في جيدها الشمسُ تلهو نصف نائمةٍ؛
من يوقظ الصبح إن مالت به دلعا!؟
وتغوص الشاعرة في عالم الفلسفة والترميز، فتكتب في ديوانها عن “زردُشت” وتقدّم حكايا تاريخيّة وأسطوريّة بقالب أنيق وشعري كقصيدتها عن “شيخ صنعان” وغيرها، ولا تخلو أبياتها من الفرضيات الفلسفية والفكرية كما في هذه الأبيات:
بعض الحقائقِ مُفرِطُ في الجِدِّ.
حتى التبسُّم قد يُفسَّرُ ضدي..!
صوتُ الأنا حضنٌ من الأوهامِ
يقذفُ كل شيءٍ في مهبّ النقدِ..
من بين كل الراحلينَ مخاوفي
تجد الطريقَ؛ ولا طريق تؤدّي…!
للغياب نصيبٌ في قصائد الشاعرة، وهي اليتيمة التي عرفت أنّ الأب هو القصيدة الأمثل للشاعرة الأنثى.
تعيش “آيات جرادي” في عالمها الروحي والعرفانيّ والدينيّ، وقد يختلف معها القارئ في ما تُلزم به نفسها شعريًّا من قضايا سياسية أو دينية تطرحها في قصائدها غير أنّه يقف أمام جسد النصّ الشعريّ مشدوه الخيال ومأخوذًا بحسن السبك وجمال التصوير.
في لغة الشاعرة سحرٌ جاذبٌ، السهل العميق الذي تحدّث عنه الأديب والناقد المصري الدكتور “محمد النويهي” حين قال: “أروع الشعر هو الذي يقترب من لغة الحديث اليوميّة”، إلا أنّ الشاعرة تقدّمه لنا على طبقٍ من التصوير الفنّي العالي، فتتحدث عن شوقها وتقول:
يا حضرة الشوق العقيم كفانا
كُن حين يختنق الفضاءُ مكانا..!
من بعد إذن القلبِ أسألك اللقاء-
فلا تقل “لا وقت عندي الآنَ”..
وكذلك للحب في شعر “جرادي” رونقٌ فوّاح، فهي تعرف كيف تعشقُ بكلّها، وتعرفُ كيف تطوّعُ حواسّها وتشدّ خيط الفكرة حتى يغزل لها الإحساسَ على شكل قصيدة:
أيهون عندك أن تراق دموعي؟
هذا احتضار الخافق الموجوعِ!
رجلٌ يشاور للحديث بإصبعٍ
فيسير بين تمنّعي وخضوعي..!
رجلٌ يشاطرني الجنونَ وكل شيءٍ
تخمتي عند الكلامِ وجوعي..
الديوان حمل سبعًا وثلاثين قصيدة، فيه أربع قصائد تفعيلة والباقي موزّع على بحور الخليل على أنواعها.
تحليل قصيدة “ستمرّ”:
“مهمة الشعر هو أن يرفع النقاب عن الجمال المخبوء ويعيد صياغة رؤيتنا للجماليات”.
-الشاعر الإنكليزي بيرسي شيلي
اشتُهِرَتْ قديمًا القصائد التي كانت تحتوي على حوار مع نفَسٍ تراجيديّ كما في قصائد أحمد شوقي وغيره.
اللافت في قصيدة آيات هنا، والتي جاءت على البحر الكامل، هو أنّها قدّمت لوحةً فكرية وفلسفةً حواريّة مع شيء من المأساوية الساخرة في نهايتها بقالبٍ إيقاعيّ مموسق وتقنيّاتٍ فنيّة جاذبة.
تفتتح الشاعرة قصيدتها بالتسليم لمفهوم وجوديّ أنّ الحياة ستمضي، معنا أو بدوننا، سواء تشبّثنا بها وأمسكناها من أطرافها أو لا، ستمضي لأنّ الزمن يسبق من يسايره، “وتفرّ من كفّيك حين تفرّ”، حتى وإن كانت يومًا بين يديك، ستهرب منك لتذهب الى غيرك، وقد حمل التكرار هنا إيقاعًا لافتًا وقويًّا في قولها “ستمرّ.. تفرّ..” لكنّ الشاعرة من البيت الثاني تلوم من تحاوره والذي قد يكون صديقًا أو شاعرًا أو أنها تتحدث مع روحها وتخاطب عقلها وفكرها مخاطبةً واعية فكرية وفلسفية، تلومه على إقباله وشوقه لحياةٍ لم تدم لغيره فكيف ستدوم له، هي حياة لن تتمسّك به عند موته فعلام يتمسّك بها في حياته؟ لا عذر له ما دام يدرك حكمة الوجود، تبدأ رحلة الحوار الجاذب، مع التساؤلات الكثيرة، والخمر أوّل أبوابها، تسأله إذا ما كان الخمر يغويه فيُجيبُ بتعفّفٍ حييّ “لعلّه”، ولهذه اللفظة دلالة كبيرة على أنّه جرّب السكر واستلذّ وسَكِر قبلًا ولكنّ الخمر هنا ليس الخمر الماديّ، لأن القصيدة ككلّ لم تتحدّث أبدًا عن المادّة بل عن المجاز والروح والفكر والعقل والفلسفة والوعي واللاوعي.
هو جرّب سكرة اللاوعي ولكنّه يخاف أن يسلّم له نفسه، فتقول له إنّ دواءه السكر، فيستفيق هنا وعيه ليتحدّث عن ضرر السكر للعقل فتردّ عليه بما في الوعي من وجعٍ وبما في الحقيقة من غلاظة وفظاظةٍ وقساوة :”وعقل المتعبين مضرُّ”.
تنتقل معه الى الخوف، الخوف من الأشياء ومن المجهول فيعترف بأن هذا الخوف ملازمٌ له حتى يكاد يكون سرّ وجوده، هو هنا لا يطلب منها أن تستر عليه خوفه، بل هو يفضح لها حقيقته بأنّ الخوف تلبّسه تمامًا.
تسأله بعدها عن إتقانه فنّ الرقص بما يحمله من تأويل إيقاعيّ وجرس موسيقيّ، فيقرّ بإجادته له، لتخبره بعدها أنّ ما سيدوم له هو “الخصر” حيث نقطة ارتكاز الرقص المادّيّ والخيال المعنوي. اللافت في البيت اللاحق هو نقطة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي الرابط بين الحديث عن الرقص وعلم الجبر، فالرقص بما فيه من حركات إيقاعيّة مدروسة يبدو خاضعًا لهندسة الأعضاء بتنسيقٍ كامل، والهندسة كانت قديمًا تدخل في علم الجبر والذي كان الصفر أحد أهمّ مكتشفاته.
تسأله عن المجاز والخيالات، فيقرّ أنّه يلجأ الى المجاز آيسًا من واقعه غير أنّه في المقابل يحاول أن يعقلن ريشة أحلامه وتصوّراته الجامحة في حياته و”أصرّ”، والإصرار هنا دليلٌ على معاناة قديمة عانى منها نتيجة خيالاته المجنونة وإلا فلمَ سيصرّ على العقلانية؟
تسأله بعد ذلك عن أبنائه، والأبناء هنا هم القصائد التي كانت بنات روحه ووحيه وأفكاره، فيجيبها بطباقٍ ذكيّ “عندي وما عندي فلستُ أبرُّ” ويكأنّه يقول إنّ قصائده تنكره!
وحين تسأله عن الشعر يعترف بحبه له، ولكتّه يعود فيصدّها بالشك، فالشك هو متّكأ الشعراء ومسندهم لذلك يرى العداوة بينهم، فتختم الشاعرة القصيدة بيأسٍ مأساويّ ساخر، وكأنها تقول، ما دام الشعر لا يؤويه فليس يحتويه بعد ذلك إلا الموت والقبر!
نلاحظ أنّ الحقل المعجمي في القصيدة يرتكز على: الخمر-السكر- المجاز- الخيالات- الخوف – الرقص – الأبناء- الشعر، وكل هذا يدور حول فلك “القصيدة” ويدلّ عليها.
رويّ الراء المشدّدة في القصيدة كان ملائمًا إلى أبعد حدّ ومتوافقًا مع معنى القصيدة، فمن صفات القوة لهذا الحرف الجهر والتفخيم والتكرير مما يناسب حالة الحوار حين يصعد بالمتلقّي، ومن صفات الضعف فيه الاستفال والترقيق حين ينزل الحوار بالمتلقي نحو اليأس والخسارة.
قصيدة لافتة جدًا إذ إنّها جمعت ما لا يجمع من فكر وفلسفة وحوار وشعر ومأساوية ساخرة واستفهامات ومجاز وعمق وحكمة.
الشعر سيحكي عن آيات جرادي وستحكي الأجيال عن تصويرها الأنيق.
هنا نصّ القصيدة:
ستمرّ لو أمسكتها..
ستمرُّ..
وتفرُّ من كفيك حين تفرُّ..!
لم تنتظرك فكيف تحتمل اللقاء-
بها؛ ولا يُدرى لشوقك عذر!
قالت لهُ؛
يغويك رشف الخمرِ؟
قال: لعلّهُ ؛
قالت دواك السُّكْرُ!
فأجابها: ضررٌ لعقلٍ متعبٍ..
قالت: وعقل المتعبين مضرُّ!..
أهناك أشياءٌ تخاف حدوثها؛
فأجابها: دوماً..(وهذا سرُّ!)
-أتجيد فنَّ الرقص؟ قال أجيدهُ
قالت لهُ، سيدوم منك الخصرُ!
فأجاب: علم الجبر أول نقطةٍ،
قالت وما أبقاهُ إلا الصفرُ!
زادت: أتعلم ما المجاز؟ أجابها
شيءٌ يراه الآيس المضطرُّ..
-وترى خيالاتٍ؛ وترسم بعضها؛
-كلا.. أعقلن لوحتي؛ وأصرُّ!
ألديك أبناءٌ، أجاب بحسرةٍ؛
عندي وما عندي، فلستُ أُبرُّ…..
وتحبُّ نظم الشعر قال أحبُّه؛
قالت إذن يبقى لديك الشعرُ!!
فأجاب؛ والشعراء يسقط بعضهم
في الشكِّ، والأعداء فيهم كُثْرُ…
قالت له فاجلس رجوتك جانباً؛
لا يحتويك الآن إلا القبرُ