الدكتور مجتبى مرتضى- ليبانون تايمز
في لحظة سياسية حاسمة من تاريخ لبنان الحديث، تأتي عملية استهداف قائد فيلق القدس الفريق سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، وما رافق ذلك من تهديدات جدّية بالرّد من كل الجبهات المتاحة ليؤكد على أن ما حصل على أرض العراق وسقوط شهداء عراقيين وإيرانيين تصيب شظاياه مختلف الدول العربية ومنها بالطبع لبنان. إن سياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة سقطت مرةً جديدة مع أولى طلقات نار الابتهاج في غير مدينة لبنانية احتفالاً “بالإنجاز” الأميركي. فكرة النأي بالنفس، رغم قناعة أغلبية اللبنانيين بعدم جديتها وجدواها، سقطت بفعل المُنظرين لها أنفسهم.
بالطبع، ليست مظاهر الفرح الفردية ولا التصريحات الشامتة هي التي ستقحم لبنان في هذه الأزمة المستجدة، ولا الانقسام العامودي المتمثل في اختلاف اللبنانيين الأزلي كما العرب على تعريف موحد للصديق والعدو، بل تواجد لبنان بفعل موقعه على حدود فلسطين ومحورية دوره، هما ما يجعلانه دائماً في قلب كل الأحداث في المنطقة.
الواقع اللبناني، هو مشهد مكرر في شرقنا المستباح لشذاذ الآفاق، والمضبوط على موجة جنون العظمة للسيد الأميركي الذي يعتقد بأنه يحق له أن يفعل ما يشاء أنّ شاء وكيف ما شاء، ويبرر لفعله بتبريرات واهية، تنزل برداً وسلاماً على قلوب الكثيرين من القابضين على مقدرات البلاد والعباد.
يتحول الإخوة، في أحسن الأحوال إلى وسطاء بين القاتل المغتصب وبين أخوهم القتيل، وتُمسي أرضهم مجالاً مفتوحاً لتمرير الرسائل بالحديد والنار، ولتصفية الحسابات، وورقة في صناديق الاقتراع الأميركية والاسرائيلية. أمام كل هذا، تنقسم الأمة بين شامت، متألم ومتفرج، بينما، المنتصر الوحيد في كل هذا المشهد هو العدو الاسرائيلي ومن ورائه الإدارة الأمريكية.
هذه الدماء التي سفكت يمكن أن تشكل فرصة حقيقية للتلاقي بين شعوب المنطقة. الأمر إذاً يتعلق بنا نحن أبناء هذه الأرض دون سوانا من شعوب وأمم. إذا كنا نريد الحياة الكريمة العزيزة، علينا أن نقنع بأن المدخل الوحيد لذلك هو الحوار والتواصل والاتفاق بين شعوب هذا الشرق المخطوف بفعل تخاذلنا وتخلفنا وتشتتنا. الحل يكمن بالسعي لتحقيق استقلالنا، والثقة بأنفسنا وعدم الركون والاستسلام إلى آلة الدعاية الصهيو-أميركية التي تعمل على بث الفرقة والشقاق بيننا.
لإيران الحق في الرد، وهو حقّ مقدس تكفله قوانين توازن القوى وتوازن الرعب بين الدول المتحاربة والمتخاصمة، كما للعراق وقواه الحية، الحق كل الحق في اتخاذ الإجراءات التي تكفل حمايته لسيادته على أرضه وسمائه. لهما كل الحق في ذلك مقابل إرهاب الدولة المنظم الذي تقوم به الإدارة الأميركية.
كما لنا نحن، أبناء هذا الشرق العربي، أن نحيا بكرامة وعزّة في أرضنا وأن نتمكن من إدارة شؤوننا وثرواتنا وفق رؤيتنا وأولوياتنا.
بالرغم من هذه الأجواء، يحلو لبعض الساسة في لبنان الاستمرار بلعبة تسجيل النقاط على بعضهم البعض. فيتلهون بصغائر الأمور، وهي صغيرةٌ مهما كبرت في أعينهم. تقول لهم، إن الوضع الاقتصادي مزري، وإن أحوال البنوك سيئة وحال الناس تبكي العدو قبل الصديق، فيجيبون بالمزيد من طلب المكاسب من هنا ومحاولات التعطيل والتفشيل من هناك. من أين لهؤلاء كل هذه الشجاعة في الاستمرار بسياسة التعطيل؟
إن تشكيل الحكومة وانطلاقها في مهامها الإصلاحية والتصحيحية للوضع القائم لم يعد يحتمل التأخير. وهو حاجة لكل اللبنانيين الداخلين منهم إلى السلطة والخارجين منها. إن إحياء مبدأ الوعي محل النأي ضرورة أكيدة تفرضها الواقعية السياسية التي يجب أن يتحلى بها الجميع في هذا الظرف الدقيق. المقاومة تُؤمن التوازن المطلوب لمنع أي مغامرة للعدو الاسرائيلي كما على الآخرين وضع كل إمكانياتهم في تصرف الحكومة العتيدة لإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية.
شرقنا المظلم، تضيئه أنوار الشهداء المتلألئة في سمائه، شعوبه تنبض بالحياة، رغم عظم التضحيات، لا مكان فيه للمستعمرين ولا للخونة وإن طال الزمن. أرض القداسة والحضارة، لن تكون إلاّ كما أراد الله لها أن تكون فسحة للتلاقي والحوار. ندفن شهداءنا ونمضي على سبيلهم، ونسلم الشعلة من جيل إلى جيل.
آن لحلم الانتهاء من خوفنا من بعضنا أن يتحقق، اللقاء ينهي الشقاق، وصدق النوايا يصفي القلوب. لا خروج من المآزق والمآسي إلا بالوحدة والتلاقي. تعبنا من الطمع بثرواتنا والسيطرة على مقدراتنا تحت عناوين واهية. كما نراهن على وعي شعوب المنطقة فإننا نراهن على وعي الشعب الأميركي أيضاً، لذلك فإن على مؤسساته الأكاديمية ومراكز دراساته وأبحاثه وجمعياته الأهلية المهتمة بتصرفات الإدارة الأميركية في الخارج أن يفتحوا حواراً مباشراً مع شعوب هذه المنطقة بعيداً عن ضغط الإعلام الموجه وجماعات الضغط الصهيونية، وسيجدون بالتأكيد أن كل الأكاذيب ونظريات التخويف لا أساس لها من الصحة. وإننا بقدر إصرارنا على مقاومة الأعداء ورد الاعتداء، نسعى إلى مدّ جسور الحوار والتواصل، من أجل تعزيز السلام والوئام في هذا العالم.