الدكتور مجتبى مرتضى – ليبانون تايمز
ينص دستورنا على أن النظام السياسي في الدولة هو جمهوري ديمقراطي برلماني يقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، غير أن ديمقراطيتنا من نوع خاص إذ انها مقرونة بالتوافق بين مكونات الدولة، والاخلال بهذا المبدأ ينزع عن السلطة ميثاقيتها وبالتالي شرعيتها.
الشرعية اذاً، قائمة على التوافق بين المكونات الطائفية التي ينضوي تحت لوائها المواطنون، مما يعطي للطائفة الأسبقية على المواطنية، من هنا تُفهم دعوة رئيس المجلس النيابي نبيه بري لاعتبار “الحراك” الطائفة التاسعة عشرة لتمكينه من المشاركة في الحكومة العتيدة.
السلطة التنفيذية تتشارك في قيادتها طائفتان “المارونية” في رئاسة الجمهورية و”السنية” في رئاسة الحكومة في حين تتولى الطائفة “الشيعية” رئاسة السلطة التشريعية. في حال التوافق بين ممثلي الطائفتين في السلطة التنفيذية فإن عجلة الدولة تسير بإنتظام، في حين تثور المشكلة في ظل انعدام الثقة وفقدان التعاون بين الركنين، أو في حال خروج أحد مكونات السلطة منها. إن هذا النظام الهجين والمتخلف، يتطلب السعي الدائم لابقاء العلاقة منتظمة في السلطة التنفيذية لتجنيب البلاد والعباد الأزمات والمشاكل.
في هذا الإطار تبرز الأهمية الحاسمة للسلطة التشريعية في معالجة الانحرافات والتجاوزات والخصومات، سواء من خلال النقاشات التي يمكن أن تحصل في أروقة المجلس النيابي، بين مكونات الحكومة أو من خلال الدور الذي يضطلع به رئيسه منذ اتفاق الطائف إلى اليوم في تقريب وجهات النظر وإيجاد المخارج للأزمات المتلاحقة سواء في تدوير الزوايا او في فرض طاولات الحوار الثنائية منها والجماعية.
لا شك أن شخصية رئيس المجلس بأسلوبه وإمكاناته وحضوره تساهم في إيجاد هذه الفسحة للتلاقي وحل الخلافات قبل وصولها إلى الشارع أو نقلها منه إلى داخل المؤسسات، رغم أنه بالأساس يمثل طائفته في رئاسة السلطة التشريعية، إلاّ أنه يسجّل للرئيس نبيه بري أنه جيّر موقعه للمصلحة الوطنية ولو على حساب طائفته، والأمثلة على ذلك كثيرة.
في ظل الأوضاع المستجدة التي فرضتها انتفاضة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، وما أفرزته من مطالب شعبية ذهبت حدّ المطالبة بإسقاط النظام مما أدى الى تشرذم على مستوى الحكم دفع رئيس الحكومة إلى إعلان استقالته متسلحاً بإعلان صريح من أغلبية أركان طائفته يفيد بأنه الوحيد المخول إعادة تشكيل الحكومة، وبالتالي فإن الطائفة الشريكة بالسلطة التنفيذية حسمت أمر مشاركتها من خلال الرئيس سعد الحريري حصراً. كما أن مختلف القوى ذهبت في نفس الاتجاه.
أمام هذا الواقع، عوّل الكثيرون على حكمة الرئيس نبيه بري في صياغة الحلول المناسبة للخروج من هذه الأزمة الوطنية الكبرى التي تتعدى مسألة المشاركة بالحكم إلى الخراب والفوضى على مختلف الأصعدة المالية والاقتصادية والاجتماعية….
وهذا ما يدفعنا إلى المطالبة بضرورة تحييد السلطة التشريعية إن لم نقل مساندتها كي لا تسقط عواميد الهيكل بأكملها مع غياب البدائل القادرة على تحمل المسؤولية، وإعادة إطلاق عجلة العمل في الدولة على مختلف المستويات.
لذلك فإنه من المستغرب توجيه التحركات نحو هذه السلطة ورئاستها، رغم أنها الوحيدة القادرة على استيعاب هذا الحراك وضخ إيجابياته في أوردة السلطة المتهالكة. إن هذا التصويب اذا ما استمر قدّ يمنع استثمار ايجابيات هذا الحراك في المكان المناسب.
الواقعية اذاً تفرض إفساح المجال امام المجلس النيابي تصريف نتاج الحراك، قوانين وأنظمة تسهم في تحقيق أكبر عدد ممكن من مطالب الناس المحقة والملحة.
الحراك اليوم، يترنح على هاوية الطائفية، وهو الذي لفتنا وإن كان بحذر في أيامه الأولى بقدرته على جمع الناس على اختلاف مشاربهم السياسية وانتماءاتهم الدينية. في الحقيقة إن الوضع الاقتصادي المزري كان وراء اجتماع الناس ولقائهم.
المسعى الحقيقي للحراك يجب أن ينصب على خروج الدولة من طائفيتها، لذلك فإنه مدعو الى ملاقاة أصحاب فكرة التوجه نحو قانون انتخابي عادل خارج القيد الطائفي، وبذلك فقط نتجاوز حاجز الطائفة ونخطّ الطريق نحن فضاء المواطنة الحقة، التي تغنينا من التمترس والتقوقع خلف الطائفية والمذهبية أمام كل “مطب” أو في كل استحقاق وطني.
البراغماتية في هذه الحالة تصبح ضرورة وطنية لأن الأحلام الثورية فقط، لا تبني دول. بهذا، نصل إلى تحقيق معجزة “الدولة المدنية الكاملة”، دولة المواطنة والمساواة، دولة العدالة والكرامة الوطنية. الله والوطن من وراء القصد.