مرة جديدة تُوضعُ عين التينة في عين العاصفة. فبعد الأزمات المتلاحقة التي تمكّن لبنان من تجاوزها بحكمة العقلاء وعلى رأسهم رئيس المجلس النيابي نبيه بري وآخرها حادثة قبرشمون. تقف البلاد مجدداً على مفترقين خطيرين: العلاقة مع سورية وانهيار الوضع الاقتصادي.
فمشهد الأيام القليلة الماضية لا يُبشّر بالخير. فالقوى السياسية الأساسية في حالة صراع سياسي قوي جداً ويُخشى أن يقع البلد بين ليلة وضحاها اقتصادياً وسياسياً. فهناك مخاوف من احتمال تفجيرات سياسية قد تؤدي الى انهيار الحكومة. وهناك أيضاً احتمال انهيار اقتصادي برزت مؤشراته مع مظاهر الشحّ في الدولار و«انتفاضة» قطاعات عدّة منها المحروقات والخبز والأدوية والمعدّات الطبية وغيرها، وصولاً الى شُبهات مالية وفساد مختلفة، إذ تتحدث المعلومات عن أن راتب مدير أوجيرو يصل الى مليار دولار سنوياً!!!
كل ذلك ومشروع موازنة 2020 المُراهن عليها للانفراج المالي الخارجي، لم تَخرُج من عنق الخلافات بين أركان الحكومة، ما دفع برئيس الحكومة سعد الحريري الى رفع الجلسة الماضية وإعلان «حرده» بعد خلاف مع الوزير جبران باسيل على مقاربة الموازنة والإصلاحات سبق ذلك توتر كبير بين الاشتراكيين والعونيين على خلفية زيارة سورية.
وطأة المواقف والتحديات وضيق المهل الدستورية، دفع برئيس الحكومة على عجل الى مقر الرئاسة الثانية واضعاً كل أوراقه في جعبة «العين». فماذا يعني لجوء الحريري الى بري؟
هذا يعني بأن «سيد السرايا» ضاقت به السبل والحيل للخروج من مستنقع الأزمات، وأوكل رئيس المجلس مسألة البحث عن الحلول وتحديداً من الناحية الدستورية السياسية إنقاذاً للحكومة وللموازنة. فرئيس الحكومة تعرّض لهجوم لاذع من أنصار السعودية في لبنان لانه لم يتصدَّ لباسيل بعنفٍ عندما قال انه ذاهب الى سورية، بل اكتفى بقوله: «فليذهب بصفة شخصية ليس لنا علاقة به»، وكان أخصام الحريري في «البيت الواحد» يريدون منه معارضة الزيارة بشدة والتهديد بالاستقالة إن أصرّ وزير الخارجية. لذلك ذهب الحريري الى بري للاستئناس بآرائه التي كانت حاسمة بتأييد الزيارة والانفتاح على سورية مع ايجاد دور اقتصادي كبير للبنان انما في اطار التوافق الوطني. ويعمل بري جاهداً على دعم الحريري في البقاء في سدة رئاسة الحكومة، وذلك عبر البحث عن مشتركات بينه وبين التيار الوطني الحر وحزب الله. فلأن بري يُثبت في كل مفصل أنه رجل كل المراحل وقيادي بصفة رفيعة يستطيع إيجاد فُسحات مشتركة بين القوى السياسية من القوات الى حزب الله والاشتراكي والتيار الوطني الحر، قبِل المهمة الوطنية والآن بصدد إيجاد حلول تقوم على التسويات. ولان لبنان بلد التسويات وتستند تسوية بري على أنه كما يمنح الاشتراكي والقوات نفسيهما الحق بمهاجمة سورية يحق لباسيل زيارتها للأسباب الاقتصادية الموجبة: أزمة النازحين من جهة وفتح الحدود السورية أمام الاقتصاد اللبناني من جهة ثانية، لأن العلاقات مع سورية حاجة وكل الدول العربية شرعت بذلك فلماذا هي محرّمة على لبنان؟!
وبحسب المعلومات يعمل بري على تحصين دعائم بقاء الحكومة، لأن رحيلها يعني المزيد من تفكك الدولة وصولاً الى انهيارها بشكل كامل. لذلك وضع الحريري كل إمكاناته لدى بري وكذلك سيفعل وليد جنبلاط للمساعدة بإنجاح هذا الدور الحامي للسلم الاهلي والسلم السياسي والوطني والمانع للتدهور الاقتصادي.
وبحسب مصادر «البناء» فإن قيادة التيار الوطني الحر وبدعم من حزب الله وبعد انسداد أبواب الحلول الداخلية للانفراج الاقتصادي وصلت الى قناعة بأن الانفتاح على سورية كفيل بإنقاذ الاقتصاد والحؤول دون التدهور المالي. وبالتالي يمكن تعويم العهد إذا أُحسن استخدام العلاقة مع سورية خلال الثلاث سنوات المتبقية من عمر العهد.
لا شك في أن رئيس حركة أمل يستطيع تغطية زيارة وزير الخارجية الى سورية كممثل للتيار الوطني الحر وكوزير خارجية مع البحث عن حلول اقتصادية للبنان، لأن بري سيقول لجميع القوى المعترضة على الزيارة: هاتونا بحلولكم الاقتصادية لنُحجِم عن زيارة الشام! أين هي المساعدات السعودية وأموال سيدر؟ وسيؤكد بري للجميع بأن البديل هي الحدود السورية التي تحرّك الدورة الاقتصادية والأسواق اللبنانية وتعزّز الصادرات وبالتالي تصحح الميزان التجاري وميزان المدفوعات وتُنعش الطبقة الوسطى.
ويعمل رئيس السلطة التشريعية، بحسب ما تقول مصادره لـ«البناء» على حل توفيقي على صعيد الموازنة مع تشريعه للتصويت إن اقتضت الحاجة علماً أن الحكومة لم تلجأ الى خيار التصويت، لكن رئيس البرلمان المدرك أهمية المهل الدستورية يسعى لحلول وسط تقضي بإحالة الموازنة الى المجلس قبل الاثنين المقبل واعداً بفتح المجلس منذ السبت المقبل لاستقبال الموازنة والشروع بدراستها في لجنة المال قبل إقرارها في الهيئة العامة. مع تحذير المصادر بأنه إن لم تصل الموازنة في موعدها، فإن المجلس غير ملزم بإقرارها في العقد العادي الذي ينتهي في 31 كانون الأول.
لمسات بري السحريّة ظهرت جلياً على تطور العلاقة ايجابياً بين حزب الله والاشتراكي وكان عراب اللقاء الذي عقد أمس، بين الطرفين بحسب مصادر مطلعة لـ«البناء»، والذي سبقته جهود كبيرة بذلها بري لترتيب هذا اللقاء ونقل التنسيق من مستوى القيادتين الى المستويات الأمنية والمناطقية والمجتمعية.
وساطات بري بعد لقائه الحريري انعكست برداً وسلاماً على جلسة مجلس الوزراء التي عقدت أمس في السرايا الحكومية إذ انطفأت النيران المشتعلة في الأحراش والغابات وانطفأت معها النيران المندلعة في الحكومة، بحسب تعبير أحد الوزراء المحسوبين على الحريري.