في موازاة المعركة التي تخوضها إسرائيل على الوعي تجاه الساحة اللبنانية، تدور معركة تقدير موقف مرتبطة بتوجهاتها الميدانية لمرحلة ما بعد رد حزب الله: مواصلة العمل على كسر قواعد الاشتباك، أو العودة إلى الانكفاء؟ والتقدير حول أيّ من الاتجاهين يشوبه اللايقين، خاصة أن معركة كسر المعادلات مقابل معركة تثبيتها لا تأتي بالأعم الأغلب من محاولة ميدانية واحدة، تفضي سريعاً إلى النتيجة المرجوة منها، أو نقيضها المقابل.
والمعركة على الوعي كما المعركة الميدانية، تختلفان في جزء منهما وتتماثلان في جزء آخر، إلا أن الهدف واحد، وهو معلن من قبل إسرائيل: تغيير المعادلة مع الساحة اللبنانية. ورد في ذلك تأكيد واضح ومباشر على لسان رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، افيف كوخافي (30/08/2019)، الذي شدد على أن إسرائيل في مسار يهدف إلى «تغيير المعادلة»، ونعتزم مواصلة تعزيز هذا الاتجاه عبر جملة من الإجراءات، إذ إننا لن نسمح لحزب الله بمواصلة مشروع تطوير دقة الصواريخ الموجودة لديه.
وتكمن دلالات تصريح كوخافي في أنه جاء قبل تنفيذ رد حزب الله بيوم واحد، أي إنه إعلان عن هدف إسرائيل كما تبلور وعملت على تنفيذه من خلال جملة الإجراءات التي شدد عليها، بمعنى أن اعتداء الضاحية كان واحداً من هذه الإجراءات الهادفة إلى «تغيير المعادلة». لكن هل يسري هذا التأكيد كما ورد، وعن كوخافي تحديداً، على مرحلة ما بعد رد حزب الله؟
الاشارات الواردة من تل أبيب أيضاً لا تحسم، وإن كانت لافتة جداً رسالة التهديد الواردة عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عبر الإعلام العبري (موقع «واللا») يوم الجمعة الماضي، في أن «إسرائيل ستواصل العمل على إحباط برنامج دقة الصواريخ، حتى وإن كان الثمن نشوب حرب جديدة»، وهي رسالة واضحة في معاني كلماتها المباشرة، لكن يجب التعامل معها على أنها جاءت في أعقاب رد حزب الله، وبعد دراسة الجيش الإسرائيلي خياراته وسيناريوات مواصلة اعتداءاته، الابتدائية منها أو الردية، علماً بأن الرسالة نفسها تحمل في طياتها تأكيدات نقيضة، في أن الجيش الإسرائيلي لا يريد (وغير معني بـ) التسبب بنشوب حرب جديدة في لبنان.
استناداً إلى ذلك، والى غيره من المعطيات أيضاً، تغلف الموقفَ الإسرائيليَّ تجاه الساحة اللبنانية حالةُ «لا يقين»، وإن كانت عوامله يقينية. معنى ذلك، أن مصلحة إسرائيل واضحة في الدفع نحو تغيير المعادلة مع حزب الله، وفي المقدمة إنهاء حالة انكفاء جيش العدو عن لبنان. كذلك هي الحال مع معظم العوامل الاخرى التي تتجاذب القرار الإسرائيلي، وهي ثابتة ويقينية منذ 13 عاماً، أي منذ حرب عام 2006، وتحديداً ما يتعلق بأثمان محاولة تغيير المعادلات وقواعد الاشتباك.
استشراف الآتي من أفعال إسرائيل، يفرض العودة إلى الاعتداء الأخير في الضاحية، أو بعبارة أكثر دقة، محاولة الاعتداء الفاشلة، التي جاء فشلها مركباً: فشل في التنفيذ من دون ترك بصمة إسرائيلية، ما حوّل العملية إلى اعتداء صاخب، وفشل في الاستهداف نفسه بعد الخلل التنفيذي. والاعتداء كما كان مخططاً له، «من دون بصمة»، هو من النوع الذي يقصد منه تصعيب اتهام إسرائيل حتى وإن أدرك حزب الله أنها هي الجهة المعتدية. ونتيجة ذلك، صعوبة الرد على الاعتداء.
هذا يعني أن إسرائيل حاولت أن تحافظ على قواعد الاشتباك الاولى، كما هي عليه منذ الحرب الماضية، بانكفائها عن اعتداءات صاخبة في لبنان، لكن مع التأسيس لمعادلة ثانية موازية تتيح لها تنفيذ اعتداءات من دون رد، إن كانت بلا بصمات، وهو ما يتوافق مع ما ورد على لسان كوخافي من أن إسرائيل في مسار يهدف إلى تغيير المعادلة مع حزب الله.
في العودة إلى السؤال الأول: هل أن الفشل التنفيذي في الضاحية، ومن ثم الرد عليه، سيفضيان إلى انكفاء إسرائيل حتى عن الاعتداءات من غير بصمات؟ الإجابة ستكون أيضاً «لا يقينية»، لكن المؤكد أن الخطأ الإسرائيلي في تنفيذ الاعتداء الأخير في الضاحية، لا يقتصر فقط على كشف هوية إسرائيل ومسؤوليتها عن الاعتداء وحسب، بل على ما من شأنه أن يكون عاملاً شبه حاسم في كشف هويتها ومسؤوليتها عن اعتداءاتها المقبلة، وإن كانت بلا بصمة. فاللا بصمة، التي أريد لها أن تخفي هوية إسرائيل وتصعّب اتهامها والرد عليها، باتت دليلاً ابتدائياً مسبّقاً على مسؤوليتها، إن استهدفت المقاومة بأشخاصها ومقدراتها وبيئتها.
هذا يعني أن الخطأ في التنفيذ الذي وقعت فيه إسرائيل في الضاحية، قلب فرصتها في مواجهة حزب الله، إلى تهديد لها. وهذه النتيجة ستكون على طاولة بلورة قرار الاعتداء المقبل في تل أبيب، وستشكل عاملاً كابحاً، وإن كان غير كامل، لاعتداءاتها. لكنها في المقابل ستكون كذلك على طاولة بلورة قرار الرد في بيروت، وتسهّل على المقاومة تعظيم الثمن، وأن يكون الإصبع رخواً على الزناد في الرد على هذه الاعتداءات.