عباس منذر_ ليبانون تايمز
يتحرك العالم على صفيح متحرك يُعيد رسم خرائط جديدة للدول والأمم، وفي عصر الاتصالات المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، ما عادت الخرائط تعنيها الحدود الجغرافية، إنه العالم الجديد بالجغرافيا القديمة ولكن بنظامٍ مختلف.
على إيقاع صوت الطائرات الأميركية التي تنقل الجنود الأميركيين من أفغانستان إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد سنوات طويلة من الاحتلال، تدخل القوات الروسية إلى كازاخستان، طالبان تشكل حكومتها، والايرانيون يفتحون خطوط الاتصال السياسي والأمني مع كابول لضبط الأوضاع على الحدود الايرانية الأفغانية، الرئيس الصيني شي جين بينغ يراقب مبتسمًا وهو المدرك لتفاصيل أوراسيا ولعبة قلب الأرض.
أجمعت التقارير الصحفية الدولية على أن الإدارة الاميركية بدأت باستراتيجيتها الجديدة، أي أن المواجهة مع الصين قادمة، ولكي ترصد التكنولوجيا الأميركية قدرات التنين الصيني ومجال حركته، ولترتيب الملفات الدولية وفق الاستراتيجية الجديدة، بدأت الساحات العالمية تسخن تدريجيًا في الوقت نفسه.
روسيا خبرت في سوريا وجورجيا الأجيال الجديدة من الحروب الناعمة، الملونة منها والسوداوية الدامية، فانتصرت عليها قبل انطلاقتها في كازاخستان، وفي اوكرانيا، حيث خطوط الغاز الروسي تفرض حسابات دقيقة وهادئة، تلعب موسكو اللعبة الأميركية نفسها في إقليم دونباس، ودباباتها تراقب الحدود، وعلى الضفة الأخرى وزير خارجية الادارة الأميركية يهدد بالعقوبات ويؤكد بأن المواجهة العسكرية مع روسيا مستبعدة، وهو يراقب عن كثب الوفد الطالباني في النروج يحادث الاتحاد الأوروبي.
منطقة الشرق الأوسط، والتي تُعتبر إحدى هذه الساحات الدولية الساخنة، ولأسباب سياسية وإقتصادية وتاريخية وربما إلهية، هي الساحة المشتعلة دائمًا، تخوض فيها أغلب قوى العالم معركتها الاستراتيجية، تحضيرًا للمرحلة القادمة، مرحلة العالم الجديد.
تكثر الأسباب التي تجعل من هذه المنطقة بندًا أساسيًا في الدراسات الجيوبوليتيكية لدول العالم العظمى والكبرى والمتوسطة وحتى الصغرى، وكأن ماكندر أخطأ في تحديد قلب الأرض، فانحرف قليلاً عن الشرق الأوسط باتجاه الشمال، متغافلاً عن طريق الحرير القديم والمتجدد تحت مسمى مبادرة الحزام والطريق، ومتناسيًا لتاريخ طويل من الصراعات الايديولوجية بعناوين مختلفة لتقسيم المنطقة والسيطرة عليها، والتي لم يكن ينقصها سوى إستكشاف بحر الغاز الهائل في أعماق الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط لتزداد دولها صراعًا وخرابًا.
وبالعودة إلى الاستراتيجية الأميركية والتغيير العالمي، تسعى الادارة الأميركية في هذه المنطقة إلى ترتيب ملفاتها الشائكة بطريقة تضمن فيها أمرين، أمن “إسرائيل” وتفوقها، والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية لصد التمدد الصيني إليها، ولعل أبرز هذه الترتيبات هو صراع خطوط الغاز، من مشروع “نابوكو” الأميركي الممتد من بحر قزوين إلى أوروبا بمتفرعاته العربية، إلى مشروع “إيسد ميد” الإسرائيلي الممتد من فلسطين المحتلة إلى أوروبا عبر قبرص واليونان.
وسط هذه الفوضى العالمية غير الخلاقة، بل الفوضى المنظمة، وهو المصطلح الذي أطلقه المدير التنفيذي السابق لشركة فيزا للبطاقات الائتمانية “دي هوك” ليصف به نظام المؤسسة التي تمزج بين مميزات الفوضى والنظام، يرزح اللبنانيون في أصعب وضع إقتصادي وسياسي وإجتماعي عرفه لبنان، وهو البلد الذي يحجز دائمًا لنفسه مساحة في المفاوضات الدولية التي تستهدف المنطقة، لذلك يعمد بعض المحللين السياسيين إلى ربط مستجدات الوضع اللبناني بمفاوضات فيينا بين الايرانيين والأميركيين، لكن بعيدًا عن دهاليز المفاوضات الدولية، وإستكمالاً لفكرة الترتيب الأميركي للملفات الاقليمية، يبرز دور لبنان في ملفين أساسيين هما أمن “إسرائيل” وخطوط الغاز.
في موضوع الغاز، ما زالت الشركات الأوروبية والمشاريع الاسرائيلية والتكتيكات التركية تتخابط على مشارف المياه الاقليمية اللبنانية، في ظل تكتم واضح للرؤية الروسية والرؤية الصينية حول الموضوع، فلا يبقى للبنان سوى الاهتمام الدولي بمشروع إعادة بناء مرفأ بيروت لما له من دور في المستقبل الغازي للمنطقة، وبملف ترسيم الحدود لتأمين إستخراج آمن للغاز من كلا الجانبين اللبناني و”الاسرائيلي”.
أما في ضمان أمن “إسرائيل”، لا شك بأن الدور اللبناني كبير جدًا في ظل وجود المقاومة، وكل التقارير الأمنية الاسرائيلية تتحدث عن تعاظم وتطور في قدراتها العسكرية وخصوصًا الصاروخية، إلا أن ضمان أمن “إسرائيل”، ومن وجهة النظر الاسرائيلية التوراتية، لا يرتبط فقط بإضعاف المقاومة، أو إنهائها، أو في عقد صفقة دولية تحجّم دورها، بل إن موضوع ضمان الأمن يتعدى كل ذلك إلى حدود إنهاء النموذج اللبناني، الذي يشكل، وبرأي كبار حاخامات “إسرائيل”، الخطر الأول على بقاء دولتهم الموعودة.
هذا النموذج اللبناني القائم على التعايش والتفاهم والتعددية، يناقض بميثاقيته مشروع يهودية الدولة، ونجاح النموذج اللبناني وإستمراريته، بل وتقدمه وتطوره، يعني حتمًا سقوط النموذج الصهيوني، أو على أقل تقدير، هو عائق كبير، وكبير جدًا، أمام تسويق فكرة الضرورة اللازمة لإقامة دولة عنصرية آمنة متفوقة على جماعات عنصرية متشددة متقاتلة تهدد أمن المنطقة والعالم.
أمام الرؤية الصهيونية للمنطقة، وبين أقدام الدب الروسي المتحركة بثبات، ومع انطلاقة أحفاد التنين الصيني من الشرق، يصغر كثيرًا حجم لبنان الجغرافي وتنعدم قدراته العملية في التأثير على السياسة الدولية، ولكن داخليًا يكبر كثيرًا دور اللبنانيين إذا ما أرادوا عبور هذه المرحلة التاريخية والخطيرة من تشكيل العالم الجديد، وهي المرحلة نفسها التي يتحضر فيها لبنان لصياغة نظام جديد يواكب به المتغيرات العالمية.
هذا النظام اللبناني من المفترض أن يحافظ على أي قوة تحميه من الاعتداءات الاسرائيلية ومن سرقة ثرواته الطبيعية، مع ضمان إستمرارية النموذج اللبناني ضمن آلية قانونية حديثة تضمن تطوره وتقدمه ومعالجة شوائبه الفاسدة، عبر سحب كل ذرائع التقاتل والتعطيل من بين قواه السياسية، ومن يد القوى الخارجية المتمرسة جيدًا باستغلالها في التدخل والتأثير، فهل يبقى أمام اللبنانيين من حلٍ بديلٍ عن مشروع إلغاء الطائفية السياسية وقيام الدولة المدنية القائمة على المواطنة المؤمنة بلبنان الوطن النهائي لجميع أبنائه؟ الإنتخابات النيابية قادمة، والتاريخ لا يرحم، وسرعة الأحداث نحو العالم الجديد لن تنتظر أحدًا.