د. سامر ماهر عبدالله_ ليبانون تايمز
بلغت الأزمة اللبنانية الراهنة مرحلة غير مسبوقة لناحية الفشل السياسي والإقتصادي والمالي والنقدي ، والأمر الذي ترافق مع فشل مطلق في القطاع المصرفي لم يعرفه لبنان منذ صدور قانون السرية المصرفية عام 1956 وقانون النقد والتسليف عام 1963. وإن هذه الأزمات مجتمعة، إن إستمرت دون معالجة سريعة، ستؤسس حتما، وبإجماع المسؤولين، لمشهد مأساوي أقله على الصعيد الإجتماعي والسياسي.
لا شك أن السيناريوهات المقبلة متعددة في ظل عدم قدرة أي قوة لوحدها – بما فيها الولايات المتحدة الأميركية – على حسم أي نزاع راهن في الشرق الأوسط دون الشراكة مع روسيا أو تركيا أو إيران. وإذا كان الدور الروسي غير مفاجئ وتتفهمه واشنطن، غير أن صعود الدولتين الإقليميتين – أي إيران وتركيا إلى مرتبة فرض الشراكة مع واشنطن في القرار الإستراتيجي في المنطقة مع إنكفاء شبه تام للنظام الرسمي العربي ، جعل ملفات المنطقة ترتبط بالملف النووي الإيراني وبمشروع الإسلام السياسي .
وبسبب عدم قدرة واشنطن على حسم أي نزاع إقليمي بسرعة ولمصلحتها كما كان يجري في مرحلة ما بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، ومع تحجيم قوى المقاومة لحليفتها إسرائيل، فهي – أي واشنطن – قد إختارت التسليم بإطالة أمد هذه النزاعات إستثمارا للوقت وخاصة في الملفين السوري والعراقي، إلى أن إختارت القيادة الأميركية في عهد الرئيس السابق ترامب ربط الملف اللبناني بالملفين العراقي والسوري ، وإتخاذها القرار بتدمير الإقتصاد اللبناني كضغط على المقاومة من بوابة المصارف اللبنانية التي في أغلبها تدور في فلك واشنطن لأكثر من سبب.
إنه لمن المعروف أن القطاع المصرفي هو محور الحياة الإقتصادية في لبنان، والأمر في ذلك يعود إلى طبيعة العقيدة اللبنانية التي رافقت تأسيسي الكيان وبلغت ذروتها بعد الإستقلال. ودون هذا القطاع لا يمكن أبدا تخيل لبنان بوجهه السابق، وهنا يطرح السؤال عن جدوى التفريط الأميركي بسهولة بدور لبنان المصرفي؟ .
دون الغوص في المسؤوليات الداخلية التي تتمحور بين جشع المصارف من ناحية، وبين أخطاء الحكومات المتعاقبة وسلطتها النقدية وضعف لجنة الرقابة على المصارف من جهة أخرى، فإنه بعد فشل خطة إسقاط الدولة السورية ، وبعد هزيمة المشروع الإسرائيلي في لبنان في أكثر من ميدان، لم يعد أمام واشنطن إلا بوابة الحرب الإقتصادية لتعيد التوازن لحضورها التاريخي في لبنان سيما أنه يبدو أن الولايات المتحدة ترغب بالتأسيس لنفوذ طويل الأمد في هذا البلد الذي أصبح محوريا ضمن معادلات المنطقة.
إذا، إن واشنطن قد إتخذت قرارا كبيرا يقضي إما بالتسليم بنفوذها في لبنان كتعويض لضعف الكيان الصهيوني وضعف دوره الوظيفي في المنطقة عامة وفي لبنان خاصة، وإما فهي ستستمر في المغامرة بالدولة اللبنانية ككل حتى لو أدى الأمر إلى طرح وظيفة الكيان اللبناني من أساسها.
يصعب الإجابة عن وضعية لبنان المستقبلية ضمن مسلسل إعادة صياغة أقطار المنطقة العربية الذي إختارته واشنطن مع بدء ما سمي بالربيع العربي ، وضمن سيناريوهات إعادة رسم أدوار الدول الإقليمية وصولا حتى إلى التشكيك الراهن والمنطقي بجدوى الكيان الإحتلال الإسرائيلي ذاته من ضمن الأجندة الغربية. لكن ما يصح قوله أن لبنان دخل إطار التفاوض السياسي الإقليمي – الدولي وتم تجهيز الأرضية لذلك عبر الإنهيار الإقتصادي المفتعل بجزء كبير منه وخاصة لناحية تعطيل العمل المصرفي فجأة وبالترافق مع ما سمي حراك شعبي.
إن إصرار واشنطن على البقاء في لبنان لا يعني مطلقا أن لبنان سيكون قراره المستقبلي أميركي ، فهذه هي معركة واشنطن الأساسية التي إستنفدت فيها كل أوراقها وصولا إلى المعركة الإقتصادية وعبر رفضها أي دعم – وخاصة عربي – ينقذ لبنان. وإصرار واشنطن على حضورها القوي في لبنان جعلها تعمل ضد المبادرة الفرنسية، وكذلك عبر تدخل ومتابعة سفيرتها في بيروت أدق التفاصيل السياسية والإجتماعية دون أي تشجيع منها على تشكيل حكومة جديدة، وأيضا فهي تعمل على تجييش حلفائها اللبنانيين للعمل على تصوير أزمة لبنان بأنها تتمثل وتنحصر بسلاح المقاومة.
وتعرف واشنطن أيضا مكانة لبنان في إيران، وهي أيقنت أن طهران لن تقدم في فيينا أي تنازل عن حضورها في بيروت، ولذلك تعمل واشنطن حاليا على حلقة ” إسقاط النظام اللبناني ” للتأسيس لصيغة بديلة للطائف تعيد من خلالها رسم مصالحها بناء على تفاهمات طويلة الأمد.
وواشنطن ليست قليلة النظر بالقدر الذي يفهمه بعض الساسة اللبنانيين أن التغيير المقبل سيكون عبر صناديق الإقتراع أو عبر إنتخابات نيابية لم تعد مبكرة، بل هي تعرف أن أي تغيير سيكون عبر تفاهمها مع إيران أولا، وعبر ألية جديدة لربط لبنان بالعالم العربي الرسمي تكون هي عرابها . والبراغماتية الأميركية قد لا تمانع أن تمر هذه الآلية حاليا بدمشق وصولا إلى الرياض.
أعتقد أننا في لبنان أمام سقوط نظام ومحاولة التأسيس لنظام جديد مكانه ولم نعد في مرحلة تطوير نظام راهن لأن مشهد السقوط الحالي مرعب وخطير وينم عن قرار كبير ومسبق بإنتاج لبنان جديد يشتمل على توازنات إقليمية ودولية جديدة. والسؤال هنا هل سيكون الإنتقال هادئا ؟.
هذا ما ستظهره الأشهر المقبلة وأعتقد أن سياسة حافة الهاوية التي تلعبها واشنطن قد شارفت على نهايتها بعد أن فشلت الحرب الإقتصادية في إضعاف المقاومة، وبعد أن أصبح الإنفجار الإجتماعي أقرب من أي وقت مضى، يفترض أن تبدأ بالظهور نتائج الحوار الأميركي – الإيراني – العربي حول لبنان الجديد الذي ستتخلى فيه واشنطن عن الكثير من حلفائها بشكل مذهل حفاظا على الحد الأدنى من الحضور في هذا البلد .