عباس ضاهر – موقع النشرة
لا يحتاج رئيس مجلس النواب نبيه برّي لأي إشادة بدوره، تاريخياً وحاضراً. ولا هو بحاجة لحملات الدفاع عما يقوم به بعد سنين طويلة من العمل الوطني. أساساً، رغم كل صفاته الشخصية والسياسية الشُجاعة، يعرف المقرّبون من رئيس حركة “أمل” أنّه لا يخفض رأسه أمام جليسه إلاّ عندما يواجه مديحاً. يتمالكه الخجل عند سماعه عبارات الثناء. وإذا كان يُسجل عتباً شديداً على كل من أخطأ بحقه، فهو يكون متسامحاً، ولو بعد حين: يطوي الصفحة إلى غير رجعة.
ليس نبيه برّي معصوماً بالتأكيد، لكن طبيعة تلك الشخصية، معطوفة على الخبرة السياسية الطويلة، في الحرب والسلم وإدارة الأزمات الوطنية بالحوار والحزم، تفرض الرجل حكيماً، لا سيما عند إتخاذه أيّ قرار يصنّف في خانة الإستراتيجي. فهل أخطأ برّي في ملف الإتفاق-الإطار لترسيم الحدود الجنوبية؟.
عندما انطلق قطار التفاوض اللبناني مع الوسيط الاميركي على الحدود البرية والبحرية منذ عشر سنوات، عانى الأميركيون من “تفاوض خشن بكلمات ناعمة” خاضه نبيه بري، ووصل الحدّ في العام ٢٠١٦ الى ان قام رئيس المجلس النواب اللبناني برفع سقف كلامه أمام أحد المسؤولين الأميركيين، لأنه خرج عن أصول تخاطب الوسيط وتحدث بلغة كانت منحازة لإسرائيل، فخاطبه بري: “إسمع يا (آموس) هوكشتاين، انا اعرف الكثير عنك و اعرف انك اسرائيلي الهوى… انا نبيه بري وإحفظ هذا الاسم، أقول لك و بلّغ عن لساني من تريد، أي كوب نفط تسرقه اسرائيل من بحرنا سيُشعل المنطقة كلّها عن بكرة ابيها وانصحك ان تصدق كلامي جيداً”.
على هذا الأساس مرت سنوات من التفاوض مع الأميركيين، الذي أرساه بري وفق معادلة بسيطة ومعبّرة: كرمال شجرة بالعديسة سقط إلنا شهداء معقول نتخلى عن 860 كيلومتر مربع من مياهنا؟ هذا ليس وارداً ابداً.
في حزيران 2007 استقال الوزراء الشيعة والوزير يعقوب الصراف من حكومة فؤاد السنيورة. أوفدت الحكومة اللبنانية المهندس وليد قشوع للمشاركة في المسح السايزمي (الزلزالي) الثلاثي الابعاد في المياه الاقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وكانت وقّعت حكومة السنيورة نفسها إتفاقاً مع الحكومة القبرصية على تحديد الحدود البحرية بين البلدين، معتمدةً النقطة “واحد” من الحدود البحرية نقطة “ثلاثيّة الأبعاد” بين قبرص ولبنان وإسرائيل. فحصلت تل أبيب جرّاء هذا الإتفاق على مساحة 850 كلم من المياه اللبنانية (هي مساحة تختزن ثروة غاز ونفط).
الاتفاق الذي وقّعته حكومة السنيورة مع الحكومة القبرصية في 17 كانون الثاني 2007، كان من المفترض ألا يتمّ قبل تحديد لجنة لبنانية من اختصاصيي الحدود البحرية اللبنانية-القبرصيّة، وبالتالي تحديد نقطة ثلاثيّة الأبعاد التي تجمع حدود ثلاث دول. أقرّت بذلك حكومة السنيورة الثانية في 13 أيار 2009 بعد اعتمادها نتائج تقرير اللجنة اللبنانية التي شُكّلت في 28 كانون الأول من 2008 واعتمدت النقطة 23 نقطة ثلاثيّة الأبعاد في قانون إدارة قطاع البترول. وبالتالي، فإن الفارق بين اتفاق السنيورة الذي أبرم استناداً إلى النقطة واحد، والنقطة 23 التي اعتبرتها الحكومة النقطة ثلاثيّة الابعاد، أفقد لبنان 850 كلم2.
وبدا ان المشكلة كانت بإعتماد السنيورة في اتفاقيته مع قبرص على خرائط قديمة أعدّتها البحرية الملكيّة البريطانية. لكن بعد إتفاق الدوحة و أثناء زيارة برّي إلى قبرص، لمس من القبارصة قناعتهم بأن النقطة واحد هي النقطة ثلاثيّة الأبعاد، وتمسّك القبارصة بموقفهم، وبقي هذا التمسّك بالنقطة واحد لحين لجأت اللجنة اللبنانية خلال لقائها مع اللجنة القبرصيّة إلى اعتماد نقطة جديدة سمّتها 23 وهي نقطة جديدة تتجاوز نتوءاً صخرياً موجوداً ومسمّى بالعبرية “تيخيليت”، بالتوازي مع النقطة 3، ويمكن المرور عليها وتوسيع الحدود إذا لم تعتمد كجزيرة، بحسب الاتفاقية الدولية لقانون البحار، ما دفع اللجنة القبرصيّة إلى تليين موقفها والبدء بالتفاوض على قواعد جديدة تراعي السيادة اللبنانية.
انطلق نبيه بري في مفاوضاته مع الأميركيين بعد القبارصة من قاعدة تصويب موقف لبنان واستعادة الرقعة المعطاة مجاناً لإسرائيل بمساحة 850 كلم مربع. وهنا حصل المد والجزر الأميركي في محاولة كسر إندفاعة رئيس المجلس النيابي الذي بقي يتمسك بمعادلة: نريد حقوقنا لا زيادة ولا نقصان.
في هذا الوقت مورست ضغوطات دولية على الشركات لمنع عملها في البلوكات اللبنانية، لكن تلك الشركات ايضاً لم تستسهل عمليات البحث والتنقيب عند الإسرائيليين. كان لا بدّ من ترسيم الحدود الجنوبية اللبنانية، فإقترح الموفد الاميركي هوف اعتماد خط (سُمي بإسمه فريديريك هوف) لتقسيم المنطقة المتنازع عليها، مما يُعطي لبنان 500 كلم مربع، واسرائيل 350 كلم مربع، من أصل 850 كلم مربع، لكن لبنان رفض.
هنا تمّ التوصل إلى إتفاق إطار يضع قواعد للتفاوض غير المباشر الذي تتولاه المؤسسة العسكرية من جانب لبنان. وهو ما أعلن عنه بري في الأيام الماضية. ليس التفاوض غير المباشر أمراً جديداً، سبق أن دخل لبنان في أطره عشرات المرات:
تفاهم تموز 1993، تفاهم نيسان 1996، تفاوض قبيل التحرير وبعده 2000، ترسيم ما بعد التحرير(لجنة ثلاثية تضم لبناني: العميد امين حطيط، وأممي، وضابط إسرائيلي). كل مسار التفاوض بحرب تموز 2006، كان تفاوضاً غير مباشر، ثم إنبثق من القرار 1701 لجنة ثلاثية تضم لبناني ويونيفيل واسرائيلي، وهي تعقد اجتماعاً دورياً تُناقش خلاله منذ عام 2006 حتى اللحظة أي خروق وتجاوزات للحدود وخطف الرعيان وإطلاق النار وأي طارئ. ايضاً حصل تفاوض غير مباشر في كل عمليات تبادل الأسرى من عام 1991 إلى عام 2008، إمّا عبر وسيط ألماني أو عبر وسيط أممي.
ماذا يعني إتفاق الإطار؟
يعني تحديد خطوط للمفاوض لا يمكن تجاوزها او كسر قواعدها. وإستندت تلك القواعد إلى: ملف التفاوض هو ترسيم الحدود البحرية والبرية. ولا يمكن فتح أي ملف آخر لا بشأن السلاح ولا التطبيع ولا غيره. لا بل أصرّ نبيه بري على ذكر “تفاهم نيسان” ضمن الإتفاق وهو ينص صراحة على: حق لبنان بالدفاع عن نفسه بوجه أي اعتداء طيلة مدة التفاوض.
ومن هنا ستكون مهمة الجيش اللبناني واضحة المعالم في تفاوض مقبل بعد أيام لترسيم حدود لبنان الجنوبية.
بعد كل ذلك يمكن القول أن نبيه بري أخطأ مرتين: عندما تصلّب في الدفاع عن كامل حقوق لبنان من دون تنازل طيلة عشر سنوات عن شبر واحد. وعندما فرض بقوة التفاوض بنوداً محددة في الإتفاق الإطار لمنع التنازل عن عناصر قوة لبنان.
وفي الحالتين سيحمي لبنان سيادته، وسيجني ثرواته الطبيعية التي تستطيع وحدها أن ترفع اقتصاده من الهلاك الى الإرتياح والبحبوحة المالية، ولو بعد حين. فهل يرفض أي لبناني، عاقل او مجنون، تلك النتائج السيادية أو الإقتصادية؟.
هذا ما سيسجّله التاريخ.