محمد علوش
إستيقظت ذلك الخميس على بشائر أحلام رتّبت مشاهدها، صور الساعات التي سبقت، والتي كانت بدورها حلماً يتحقّق، بعد انتظار طويل وأثمان باهظة، دفعها اللبنانيون عامّة، والجنوبيون خاصة، وهم الذين قاموا الاحتلالات كلها، قبل قيامة لبنان وبعدها.
إنه تحرير الجنوب من رجس الإحتلال. يومها تصبّرت أمام التلفاز الصغير الذي يعمل على “البطارية”، كانت الكهرباء مقطوعة، وأهلي يجلسون برفقة جيرانهم، صرت أتابع أخبار تحرير القرى، وأركض لأنقل الخبر الى المجتمعين في منزلنا.
ربما كان قدري أن أعمل في مجال الإعلام، لانقل الأخبار، ولكنني منذ 20 عاما حتى اليوم، لم أجد خبرا يستحق الفرح في نقله كأخبار تحرير عام 2000. من الصعب، لا بل المستحيل، وصف لحظات التحرير، فلا كلمات تعبّر عن الشعور والفرحة، خصوصا اننا كنا نعيش بشكل يومي همجية العدو الاسرائيلي واستكباره، وكان المقاومون، ولا زالوا، جيراننا، أهلنا، اصدقاءنا، يعيشون معنا وبيننا، وكانت القضية ولا زالت، حيّة في عمق وجداننا، وأمام أعيننا التي كانت تشاهد الحقد الاسرائيلي الذي يخرج من موقع “الدبشة” المقابل لقريتنا.
20 عاما على التحرير، مرّت وكأنها طرفة عين، فالعدو الإسرائيلي أعاد في العام 2006 تذكيرنا بوجوده، ولا يزال يذكّرنا بهذا الوجود السرطاني كل يوم عبر انتهاك سيادة سمائنا، وبحرنا، وأحيانا برّنا، الى جانب استمرار احتلاله لأراض لبنانية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من بلدة الغجر، وتهديده حقوقنا البحرية، والحرب مع العدو مستمرة وطويلة، ولو فزنا بمعركة أساسية هي التحرير.
هذا بالنسبة الى تحرير الأرض اللبنانية من احتلال العدو الاسرائيلي، ولكن ماذا عن تحرير الإنسان اللبناني من عدوين لا يقلّان خطوة عن الاسرائيليين، وهما الطائفية والفساد. تحتل الطائفية المجتمع اللبناني فتمنع تقدمه وتطوره، تجعله رهينة حسابات البعض الذين يغذّون الطائفية وهم بعيدون عن الدين، ويغذون المذهبية وهم بعيدون عن الله، وهذا الاحتلال يجعل من العقول محدودة التفكير، ويوجّه الإمكانات نحو المصالح الضيقة الخاصة، يفرّق الناس ولا يجمعهم، يجعل الشعب شعوبا، والوطن حارات يعيش على كل مزبلة فيها ديك. التحرير من الطائفية والمذهبية بات ضروريا لبناء لبنان الجديد، وهذا التحرير، ككل تحرير، لا يمكن أن يتحقق من دون مجهود، ولذلك بات لزاما تطبيق اتفاق الطائف، والتوجه نحو الدولة المدنية، التي لا تعتبر الدين عدوّها، إنما تفصل الدين عن الدولة، وتنظر للمواطن تبعا لهويته وجنسيته اللبنانية لا ديانته، وتحفظ حق الجميع بالانتماء الديني وممارسة الشعائر التي يرغبون بها، وتساوي بين الجميع بالحقوق والواجبات.
إن هذه الدولة المدنية، المصنوعة على قياس لبنان، والتي لا يجب أن تكون تطبيقا لتجارب بعيدة، لأن لبنان الفريد من نوعه وبتنوعه يمكن له الوصول الى دولة مدنية خاصة به، دولة يتواجد فيها مجلس نيابي لا طائفي، مكوّن من أحزاب متحالفة حول مشروع وطني، يجعلها تصل الى الحكم، الى جانب مجلس للشيوخ يحفظ حقوق الطوائف في البلد، فينتفي الخوف من الآخر، وتنتهي “فوبيا” الأقلية، ففي لبنان تبين أن “المواطنية” هي الأقلية، وأن المواطن هو الأضعف، والجماعات التي تحكم بإسم الطوائف هي الأقوى. هذه الدولة التي تشهد التحرير من الطائفية، يمكن لها مواجهة العدو الثاني، وهو الفساد، فمع الدولة المدنية يمكن تحرير القضاء، ومع تحرير القضاء يمكن إعلان الحرب على الفساد.
الفاسدون يتلطّون خلف طوائفهم، والقضاة يتظللون بعباءة السياسيين طمعا بالتعيينات، وبالتالي إن الحرب على الفساد لا يمكن أن تبدأ إلا من تحرير لبنان من الطائفية، وتحرير القضاء من التبعية.
20 عاما على تحرير الأرض التي احتلت قبل التحرير بحوالي 20 عاما، و77 عاما على احتلال الإنسان في لبنان من قبل الطائفية والفساد، منذ اعلان استقلاله، ولم يتحرر بعد، لذلك نأمل أن نعيش فرحة تحريره مجددا، تماما كما عشنا فرحة تحرير الأرض في 25 أيار من العام 2000.