سارة بشار الزين – ليبانون تايمز
“أنا لا أطلب منك أن تصفَ سقوط المطر، أنا أطلبُ أن تجعلني أبتلُّ..” -الباحث والروائي إدواردو غاليانو.
نحن أمام شعرٍ يمطرنا جمالًا حدّ البلل!
للشعر في ذهنِ كلّ قارئ وناقدٍ وأديب فلسفةٌ خاصّة ورؤية تؤكّد لنا استحالة حصره وتعريفه! ولكنّ الشاعر الحقيقي هو الذي يستطيع أن يهزّ إحساس المتلقّي، وكلّما قارب عقله وشعوره معًا كلّما كانت الدهشة أكبر وأعمق!
“إنْ حَسِبتَ نفسكَ شاعرًا، فاملُكْ ناصيةَ الشعر! أنتَ تعرفُ ما نحتاجُ إليه! نحن نريدُ شرابًا قويًّا، فأعدَّ لي منه على الفور..!” – غوته.
للشاعر العميد مجدي الحجار قدرة لافتة على التصوير الشعري الدقيق بعدسة إحساسٍ شفيفٍ وعالٍ.
لغويٌّ يحملُ معجمه الخاص بعنايةٍ وحرص، وعاشقٌ نهمٌ للشعر والأدب، يحمل بين يديه مهابة الحرف وشغف القفز وجنون العبور وعمق الفكرة والفلسفة، ويحوم حول المرأة كخيالٍ ممسوسٍ بالحقيقة إلا أنّه الشعر!
الديوان الثالث للشاعر مجدي الحجار والذي يحملُ عنوان “الوجع الأبيض” يطرح فلسفةً جديدةً لنزفٍ شعريٍّ من نوعٍ مختلف، ويقدّم قربانًا ناصع المبنى، وغزير المعنى والتأويل على طبقٍ من الحداثة والسبك الأنيق المتدفّق والمنسابِ كامرأةٍ ترقصُ “الباليه” وعند أوّلِ استدارةٍ لها حول الإيقاعِ يقعُ شالها الأبيضُ الفتّانُ عن شعرها الحريريِّ الناعم فيتكشّف السحر!
ستٌّ وثلاثون قصيدة طغى على أكثرها شعر التفعيلة مع القليل من القصائد العمودية، وكأنّ ريح الحداثة تأخذ بخيال الشاعر الى حيث البناء الحرّ، غير أنّه لم يتحرر بعد من القافية! ما زال يحمل رغم جموحه قبضةً من أثر “الخليل”.
“الوجع الأبيض” يشير الى النزف الخلاق، الى جرحٍ إبداعيٍّ يترك مساحة الدهشة تتفوّق على جبروت الألم، كأن تلقى مولودك الشعريّ بعد مخاضٍ طويلٍ وطلقٍ متراشقٍ في رحمِ القصيدة، إلى أن يسيل دمُه عند انسكاب الحرف على أطراف الورق الأبيض فتبتسم وتنسى كلّ الآلام!
تجذبك ثقافة الشاعر التي تتجلّى في نصّه حينًا من خلال التناص القرآني، وحينًا آخر عبر الترميز الذي يستخدمه بذكاء، ثمّ يوغل في المرأة التي تشبه الى حدٍّ كبير صراعه مع القصيدة، فهو لا يريدها مبنىً بلا عمق وجوهر، ولا معنى بلا قالبٍ سحريٍّ جاذب، فـ”الشعر الذي يعتبره “أوغسطينيوس” سراب الشيطان، جعله العميد وحيًا من جناحين أبيضين مقدّسين كقصيدته التي كتبها في والدته “حروفٌ من نورها”:
“سلبَ الموتُ أمّكَ
فاقتله بالشعر
واقتله بالحبِّ
وانظر إليّ لتبصر بعض ملامحها فوق وجهي
…
بسطَ الله كونًا من الحبّ
في أصغريْها
تسبّح أفلاكه باسمه كلّ آنٍ
فلمّا اجتباها الى قربه
أودعتكَ مزاميرها
دررًا
تتوهّجُ في أصغريْك!”
يعيشُ الشاعر مع قصيدته طقوسًا خاصّة، وأسرارًا لا يبوح بها من أوّل عبورٍ الى جسد النصّ أو الى لغته الشعرية، غير أنّ عملية تفكيكية على منهج “دريدا” لقصائده تبيّن للباحث سريعًا أن القصيدة أبعد بكثير مما يوحي إليه ظاهرها.
وعلى الرغم من استخدامه اللافت لكلمة “مثل” ما يزيد عن عشرين مرة في ديوانه، إلا أنّه كان في كلّ مرّة يضفي عليها تفصيلًا معيّنًا ليجعل لها خاصّية تشبيهيّة تعبّر عنه.
تحليل لقصيدة “برق على الأنياب”:
العنوان بحدّ ذاته يخطف الأنفاس، فأيّ التماعٍ وضوءٍ هو ذاك الذي تحمله الأنياب الشرسة؟!
القصيدة تعرضُ حالةً يفهمها الشعراء الذين مرّوا بهذا المخاض المخيف! هؤلاء الذين يعيشون أرقًا ما بينهم وبين القصيدة، ذاك الأرق اللذيذ الذي يكون فيه الهلاك متعةً لا يرقى إليها إلا ذو حظٍّ عظيم.
يلفتك أوّلًا الحقل المعجميّ السوداويّ من خلال المفردات المستخدمة: “تكسّر- جفاه- وجع- ويحي- طاحت- ظلام-واهن- حتفه…”
“وجع القصائد في الأصابع” عبارة تحمل الكثير من النزف لمن يتمرّد عليه نصّه ويعيش مهابة ومقام الحرف.
عندما تتمنّع القصيدة عن الشاعر في فترة المخاض وقبل ولادتها بثوانٍ، يمرّ الشاعر بحالةٍ من الهذيان المؤدّي الى النزف المقدّس مما يجعله يلعن العمر الذي مضى من دون أن يدرك الشعر وسرّه، ويتمنّى لو أنّه يولد من جديد حتّى يجدّد العهد والنبض والدّم مع هذا الكائن المتوحّش الذي يخرجه من ذاته ليعيش ذوبانًا خالصًا فيه ووجودًا لا ينتمي إلا إليه.
يعترف الشاعر بعبثية قصائده في مرحلة الشباب “طاحت بلا هدفٍ وتاهت في الضبابِ”، وهو يبحث عن سرّ القصيدة وعن بابها ومفتاحها وكيفيّة الولوج إليها من جديد. يحتاج إلى أن يخترق كل الحواجز التي حالت ما بينه وبينها.
يبدأ المخاض: يعيش الشاعر حالةً من الارتباك والوجل في حضرة الشعر المفدّى، ثمّ يدخل غار القصيدة الذي يبدأ بالظلام الدامس، فيحلّ البرد ويتسلّل الى جسمه الضعيف، وعلى الرغم من المطر العنيف الذي كان يسوطه -ولعلّه يقصد هنا العثرات التي تعترض طريق بناء القصيدة من خوف الشاعر مثلًا من اجترار تجارب الآخرين أو التناسخ اي تكرار نفسه وتجربته أو الفشل وغيره- كان يسوط بالكلمات كلّ الأشباح التي يواجهها في مسيرته نحو القصيدة الحلم، إلى أن جاءت سكرة الشعر بالحق! وبرقت الفكرة فوق أنيابٍ “تشقّ غوامض المعنى وتفترع الحقيقة بالمجاز” فيسيل هناك دم حبره وينزف قربان عشقه الأوحد.
ثمّ يبدأ الرقص فوق الكلمات ثمّ الإيقاع ليكشف عن حقيقة الشعر “الوحش” الذي ينمو تحت جلد الشاعر فيؤرّق ليله كفريسة ويسبي صبحه كرهينة (مقابلة إيقاعية مع طباق).
يصل الشاعر في ختام القصيدة الى مفترق طريقين لا ثالث لهما، فإما النجاة من خلال الخروج بقصيدة حبلى بألف قصيدة حبلى الى ما لا نهاية!
وإما الردى والموت مع موت الشعر والنص.
يطرح الكاتب خياريْ النجاة والموت كأسئلةٍ وردت في النص بكثرة تؤرّقه ثمّ يترك فسحة أمل عبر المخلّص المنتظر والمحتمل “الإلهام” الذي يخطّ عبره نجاته وخاتمة عذابه.
اللطيفة البارزة في النص كانت في قوله “سيغيثني الإلهام ثانيةً”، استخدامه لكلمة “ثانية” يدلّ على أنّ هذا المخاض ليس بجديد وأنّه قد مرّ بما مرّ به سابقًا وأنّ الإلهام أنقذه من الموت الشعري قبل هذا، ولذلك فهو يعوّل عليه ثانيةً، وهذه هي حال كلّ الشعراء الذين يعرفون حقّ المعرفة الخيط الفاصل ما بين النظم والشعر!
قصيدةٌ اصّعّدت من روح الكاتب حتّى كأنّ المشهد يتراءى أمام أعيننا بأعلى درجاته ويذكّرنا بمنحوتة “لاوكون” وهو يتلوّى بين أحضان الأفعيين، تلك المنحوتة الصارخة التي تعبّر عن الوجع والألم كانت أقرب ما يكون من نزف شاعرنا في هذا النص.
على وزن بحر الكامل أطلقَ الشاعر صرخته ومعاناته في سبعة مقاطع متفاوتة الطول مع زيادة سبب خفيف في القافية “متفاعلاتن” وكأنّه يضيف الى وجعه وجعًا آخر مع الروي الباء المكسورة وهي حرف جهر يعلن من خلاله رغبته في البوح وإظهار النزف.
وهذا هو نصّ القصيدة:
برقٌ على الأنياب
قلبي تكسّر مثل أقلامٍ
على ورقٍ جفاه الشعر
يا وجع القصائد في الأصابعِ
قبل أن تغدو…
سطورًا في كتابِ
ويحي من العمرِ الذي
ولّى بلا شعرٍ
بلا عمرٍ
فكيف لشاعرٍ
أن يستعيد شبابه في الشعر
مقتفيًا ظلال قصائدٍ
طاحت بلا هدفٍ
وتاهتْ في الضبابِ؟
هل لي إلى سرّ القصيدة عودةٌ؟
قدمايَ فوق الدرب ترتبكانِ
في وجلٍ
فأمشي في ظلامٍ دامسٍ
والبرد يقسو فوق جسمٍ
واهنِ الأعضاءِ
والمطرُ العنيفُ يسوطني
وأسوطُ بالكلماتِ أشباح الذئابِ
مطرٌ على ليلِ ارتيابي
والبرقُ يلمعُ فوقَ أنيابٍ
تشقّ غوامض المعنى
وتفترع الحقيقة بالمجاز
فيقطرُ الدمُ من ثيابي
طاشت سهامُ الشعر
في الكلماتِ
واندثرت خطوط الروح
في الإيقاعِ
وانطفأتْ مصابيحُ المعاني
في الترابِ
والشعرُ وحشٌ
تحت جلدي هائجٌ
يجتاحني في الليل
مثل فريسةٍ
يقتادني في الصبح
مثل رهينةٍ
إمّا الخروج قصيدةً حُبلى
بألفِ قصيدةٍ حُبلى
وإمّا حتفهُ حتفي!
فمن منّا سينجو؟
من سيُقتَلُ؟
أم تُرى
سيُغيثني الإلهامُ ثانيةً
لكي ننجو معًا
ونخطّ بالأقلامِ خاتمةَ العذابِ؟