صلاح تقي الدين – موقع لبنان الكبير
عندما أعلن الرئيس نبيه بري بعدما استفحلت أزمة الفراغ الرئاسي أن المشكلة هي عند المسيحيين وأن حلّها يوصل رئيساً إلى بعبدا، انبرت الأقلام الصفراء والمنتقدون إلى اتهامه بمحاولة رمي الكرة عند بكركي وسيدها لإبعاد تهمة التعطيل التي التصقت بالثنائي الشيعي، غير أن زيارة أمين سر الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين أكّدت المؤكد أن العقدة مسيحية، وأثبتت أن الرئيس بري على حق.
لم تكن مسألة غياب رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية أي رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع عن الاجتماع الروحي الموسع في بكركي، وغياب رئيس أكثر الأحزاب المسيحية حضوراً في ذهن اللبنانيين، النائب سامي الجميل رئيس حزب “الكتائب” عن الاجتماع نفسه، مسألة شكلية، فهي إثبات على الخلاف الكبير بين القوى المسيحية حول كيفية التعاطي مع مسألة الوجود المسيحي في لبنان وحضورها فيه، ومسألة انتخاب رئيس للجمهورية الذي عليه لعب دور مهم في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها لبنان والمحيط.
والمفاجئ أكثر هو أن الأصوات المسيحية بدأت ترتفع علناً وعلى شاشات التلفزة ومن خلال مقالات تحمل توقيع شخصيات عرفت سابقاً بتهجمها على بري لأنه يحمّل المسيحيين وقياداتهم مسؤولية عدم الوصول إلى توافق لملء الكرسي الشاغر في بعبدا منذ نهاية عهد الرئيس السابق ميشال عون في 31 تشرين الأول 2022، لا بل ان هذه الأصوات راحت تحمّل القيادات المسيحية إياها مسؤولية عدم وجود مشروع يضمن استمرار وجودها ودورها في لبنان استباقاً للتغييرات الكبيرة المنتظرة على صعيد الاقليم.
وإذا كان لقاء بكركي بالشكل قد طغت عليه مسألة المقاطعة الشيعية، إلا أن الرسالة كانت واضحة من القيادة الروحية الشيعية مدعومة حكماً من القيادة السياسية بتوجيه رسالة اعتراض على العظة التي ألقاها البطريرك بشارة الراعي الأحد الفائت ووجه فيها كلاماً اعتبرته القيادة الشيعية تجنياً وظلماً بحق المقاومة، لكن المحاولات التي بذلت لاحقاً لاحتواء هذا “الخلاف” من خلال إصرار الراعي على مشاركة المونسينيور عبدو أبو كسم في احتفال “غديرية بيروت – 2024” الذي أقيم في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى قد برّدت النفوس إلى جانب مواقف أخرى “تفسيرية” ساهمت أيضاً في إعادة المياه إلى مجاريها.
ولا يمكن في هذا الاطار أيضاً إغفال الدور الرئيس الذي لعبه بري في منع تفاقم الأمور بين “الشيعة” و”المسيحيين”، إذ ان الرجل تاريخه يشهد له بذلك في كل المحاولات لمنع وقوع شروخ “طائفية” بين من يمثّلهّم سياسياً أي الشيعة وبقية الطوائف اللبنانية وتحديداً “الموارنة” منهم.
لكن المقاطعة الحقيقية هي التي تمثلت في غياب جعجع والجميل شخصياً عن اللقاء، وهذا ما أثار حفيظة الكاردينال بارولين الذي اعتبر أن هذا الغياب يعقّد كثيراً مسألة انتخاب رئيس للجمهورية، وهي المسألة الأهم والتي جاء الرجل الثاني في الفاتيكان إلى لبنان لمحاولة حلحلتها.
وفي العظة التي ألقاها بارولين بعد ترؤسه القداس الإلهي في كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت، قال: “باسم قداسة البابا، وبكل ثقة ورجاء، أجدد هذا النداء إلى جميع أصحاب المسؤولية، لكي يتمَّ التوصل بسرعة إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة ولكي تتمكن البلاد مرة أخرى من أن تجد الاستقرار المؤسساتي الضروري لمواجهة التحديات الراهنة بجدية”.
غير أن الكلام الأكثر تعبيراً عن حقيقة موقف الفاتيكان من مسألة انتخابات الرئاسة أعلنها الكاردينال بارولين لدى مغادرته عين التينة بعد لقائه بري، إذ قال: “الحل للأزمة الرئاسية يبدأ من هنا”، أي أنه أعطى الرئيس بري الحق وسلّمه مفتاح الحل المنشود، والذي كما هو معروف، دعوة الرئيس بري الى الحوار.
وبحجة التعددية ضمن الطائفة، يدأب القادة الموارنة على “تهميش” أنفسهم ودورهم، وتوجيه الاتهامات بحق بعضهم البعض وكل واحد منهم عينه على الكرسي الرئاسي، وإذا كان هذا الكرسي هو طموح مشروع لكل منهم إلا أن اختلافهم على من يملك أحقية الجلوس عليه يساهم في إضعاف دورهم لا بل يهدّد وجودهم الحقيقي إذ نشهد أكبر نسبة للهجرة من لبنان بين الشباب لدى الموارنة أكثر من غيرهم.
وإذا كان زعيم تيار “المردة” الوزير السابق سليمان فرنجية هو مرشح الثنائي الشيعي للرئاسة، فمن غير المقبول أن يطلق رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل جولة على القوى السياسية غلافها الترويج للحوار وباطنها كل ما يمكنه لاسقاط ترشيح فرنجية، وأن يعارض جعجع والجميل القبول بالدعوة إلى الحوار لعدم تكريس “بدعة” غير دستورية ظاهرياً لكنها بالباطن تصب في الهدف نفسه وهو قطع الطريق على فرنجية.
لم تعد المشكلة في اسم من يصل إلى بعبدا، وإذا كانت إسرائيل تشكّل تهديداً وجودياً حقيقياً على لبنان نتيجة حربها غير الأخلاقية واللاإنسانية على غزة، إلا أن الخلاف المسيحي الداخلي يشكل خطراً وجودياً على المسيحيين الموارنة تحديداً وعليهم القبول بالدعوة إلى الحوار للتوافق على اسم الرئيس العتيد علهّم بعدها ينصرفون الى نقاش “داخلي” حقيقي يحدد لهم مسارهم ووجودهم في هذا البلد الذي دعاه البابا يوحنا بولس الثاني يوماً “وطن الرسالة”.