عباس منذر – ليبانون تايمز
يُعتبر مفهوم المواطنة فكرة اجتماعيّة وقانونيّة وسياسيّة، ساهمت في تطور المجتمع الإنساني بشكل كبير إلى جانب الرقي بالدّولة إلى المساواة والعدل؛ عن طريق تعزيزها لدور كل من الدّيمقراطية والشّفافيّة في بناء وتطور الدولة، وذلك بإشراك المواطنين بالحكم وضمان حقوقهم وواجباتهم.
وضع الإسلام أسس المواطنة عبر آيات كثيرة في القرآن الكريم، فسّرها الفقهاء كل حسب أسلوبه ورؤيته العقائدية تبعًا للمرحلة التاريخية التي انتمى إليها، فتعددت الاجتهادات وتوسعت في الشروحات، ومن أبرزها إجتهادات الإمام السيد موسى الصدر، الذي تناول المواطنة بأسلوب السهل الممتنع، وأعطى حيزًا كبيرًا من أفكاره للبنان.
لطالما اختلف اللبنانيون على أغلب القضايا والأفكار التي طُرحت في مجتمعهم، وشكلت هذه الخلافات سببًا أساسيًا في عدم ايجاد رؤية موحدة لمستقبل لبنان ودوره وآلية خروجه من مستنقع المشاكل والانقسامات التي يعاني منها على جميع الصعد، إلا أن الإمام السيد موسى الصدر – مؤسس حركة أمل والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى – كان من القادة القليلين الذين استطاعوا أن يحصدوا إجماع اللبنانيين حول الكثير من الأفكار التي طرحوها، لا سيما فيما يتعلق بالمواطنة والوحدة والتعايش، وهو صاحب المقولة الشهيرة التي أصبجت بندًا أساسيًا في الدستور اللبناني “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”.
من هنا، يأتي الولوج إلى موضوع المواطنة في فكر الإمام موسى الصدر، كإضاءة مختصرة على أفكار هذا الإمام، والتي برأي غالبية المفكرين ما زالت تشكل حاجة لبنانية بعد مرور أكثر من 50 عامًا على طرحها، والتي يمكن أن تشكل جزءًا من الحل في مسألة التربية على المواطنة.
أسباب طرح الإمام لفكرة المواطنة:
اعتبر الامام السيد موسى الصدر أنّ هناك خللاً عميقا في بناء الدولة اللبنانية يتجلى في العلاقة بين المركز (الثري) والاطراف (المحرومة)، من هنا كانت دعوة الإمام موسى الصدر الى “دولة المواطنة” التي تلغي السقوف المتعددة للمواطنية وللمناطق بسبب بناء الدولة على الطوائفية السياسية التي اعتبرها العلّة التي ستحول مستقبلاً دون قيام الدولة الحقيقية، أي دولة المواطنة، حيث يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات، ويتم استبعاد العامل الطائفي والسياسي عنها، أي فصل الطائفية عن الدولة وتعميق الطابع الايماني داخل الدولة باعتبار أن الأديان هي واحدة عندما تلتقي في الله، وخدمة الانسان هي الطريق الى الله، وأن القاسم المشترك بين المسيحية والإسلام هو الإنسان الذي هو هدف الوجود وبداية المجتمع والغاية منه والمحرك للتاريخ، فالدولة اللبنانية في رؤيته دولة متدينة تستمد تشريعاتها من الاديان السماوية كما صرح بذلك الدستور الوطني، ولكن يجب أن يتم تعميق المواطنة عبر تحقيق المساواة الفعلية بين المواطنين والعدالة الاجتماعية.
الصيغة اللبنانية:
أدرك الإمام السيد موسى الصدر أهمية الصيغة اللبنانية التي تعني في ما تعنيه “التمسك بوحدة لبنان وانسجامه مع المنطقة وصيانة كونه امانة للحضارة العالمية”، أهمية هذه الصيغة أنها تقدًم البديل لنظرية حرب الحضارات التي تركز على الصراع بين الحضارتين الغربية والاسلامية، لذلك دعا إلى التعاون بين الطوائف اللبنانية كافة، وحفظ وحدة لبنان من خلال الاحترام المتبادل بین هذه الطوائف، وممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على استقلال لبنان وحريته وسلامة أراضيه.
كما دعا الإمام الصدر إلى ايجاد حركة وطنية متآلفة دافئة تتخطى الحواجز المصطنعة بين أبناء هذا الوطن، حركة تكون قوية، أبوية، موثوقة، مضحية، موضوعية، حركة تعتمد على جذور عميقة من الإيمان بالله، وبالوطن وبالإنسان… والعلاج في تكوين دولة الحق وتحمل مسؤولياتها الكاملة، حتى يشعر المواطن بأن الانتماء إلى الوطن هو البديل الكافي عن الانتماءات الأخرى لحمايته، ولصيانة حريته وقوته وكرامته.
الوحدة الوطنية:
ترك الامام السيد موسى الصدر الكثير من المواقف والمبادرات، والكثير من المبادئ العامة التي توصل إلى الدولة الحاضنة لأبنائها جميعا، وإلى الوحدة الوطنية التي تلم شمل اللبنانيين جميعا، حيث نظّر وعمل ودعا إلى ترميم الوحدة الوطنية الهشّة، وإلى تدعيم الدولة المترنحة من خلال جعلهما امتداداً عميقاً ومتساوياً في العقل والضمير والوجدان في ثلاثة اتجاهات متكاملة:
1- تحديد الهوية الوطنية وتشخيص من هو العدو والصديق من دول الجوار.
2- تعزيز الوحدة الإسلامية – الإسلامية داخل لبنان وخارجه.
3- عنايته بالعلاقات الإسلامية – المسيحية، وإقامة وحدة وطنية حقيقية.
لقد وضع الإمام الصدر في عام 1969 توصيفا لمعنى الوحدة الوطنية حيث قال: “إن الوحدة الوطنية لها معنى أعمق من توحيد المصالح أو واجب احترام الميثاق الوطني والإيمان بالعيش المشترك، الوحدة الوطنية في الحقيقة، هي وحدة الأفكار والقلوب، إنها وحدة الأهداف ووحدة كل المواطنين في الأهداف والمعايير العامة لوجود الإنسان، هذه الوحدة هي وجود شعب والتأكد من استمرار الوطن”.
مواصفات دولة المواطنة:
اعتبر الإمام السيد موسى الصدر أنه لا يوجد خلاص للبنان الا من خلال تعزيز المواطنة على حساب الغاء الطائفية السياسية ومحاربة الاتجاهات العلمانية التي تزيد المجتمع شرخا، وقد كان يطمح للوصول إلى “دولة المواطنة”، وهذه الدولة لها عدة مواصفات، منها:
- الدولة القوية والقادرة التي تحمي ابناءها عبر بناء جيش وطني قوي تابع للدولة وليس تابعا للطوائف وقادر على تحقيق وضمانة الوحدة الوطنية.
- الدولة العادلة التي تحقق العدالة الاجتماعية لجميع ابنائها، وترفع الظلم الحاصل علی المواطنین -خاصة في الاطراف- مما یجعلهم غیر متمسکین بوطنهم.
- الدولة التي تستعيد حيوية الطبقة المتوسطة والتي هي عنصر التوازن الاجتماعي، وتهتم بالشباب الاكثر تأثرا بمشاكل السكن والبطالة والطوائفية.
- الدولة التي تهتم فعلا بالمرأة وتشركها في القرار السياسي والاداري ومجلس النواب والحكومة وخارج استتباعها للثقافة الرجولية.
- الدولة التي تواجه الفساد الاداري والسياسي.
- الاخذ بالقيم المدنية واعطاء الاولوية للحوار واسقاط لغة التحدي وتغليب فكرة المواطنة في وطن على فكرة المواطنة في طائفة.
- محاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والفساد الأخلاقي.
- عدم التمییز بین المواطنین لا علی اساس دیني او على أساس مناطقي.
عناصر تعزيز المواطنة:
إن عناصر تعزیز المواطنة عند الامام السيد موسى الصدر تتلخص بالآتي:
1- التنمیه الاجتماعية والاقتصادية ورعایة حقوق المحرومین والمستضعفین وایصال البنی التحتیة الی کافة المناطق اللبنانیة.
2- المشارکة السیاسیة من قبل کل المواطنین باعتبارها حقا لهم وواجبا علیهم بدلا من اعتزالهم الحیاة السیاسیة.
3- الالتزام بالحقوق والواجبات من قبل المواطنین والدولة بحسب القوانین على الشكل الآتي:
- واجبات الدولة: العدل، الحریة، الدفاع عن المواطنین.
- واجبات المواطن: الایمان بالانتماء للوطن، المشارکة الشعبیة في العملیة السیاسیة والتغییر، عدم التبعیة للخارج.
4- رفض الطائفیة السیاسیة والعلمانیة باعتبار انهما طرحان یودیان الی تقسیم لبنان وتخریبه.
5- رفض علمنة قانون الأحوال الشخصیة لأنه یلغي التنوع الثقافي الموجود فی لبنان.
6- تعزيز فكرة أن “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، وأن الطائفية نقمة والطوائف نعمة، وأن التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها”.
7- تغيير النظام التعليمي عبر فلسفة تربوية واضحة قائمة على: تعزيز المواطنة، إحترام كرامة الانسان، تعرّف الطالب على تاريخ وطنه وتعرّفه على الحق والباطل والعدو والصديق.
المواطنة في ميثاق حركة أمل:
سنة 1974 أسس الإمام السيد موسى الصدر حركة المحرومين والتي أصحبت تُعرف فيما بعد بإسم حركة أمل أفواج المقاومة اللبنانية، وجاء تأسيس الإمام الصدر للحركة من منطلق إيمانه بتحويل الحالة التي أرساها بأفكاره وحضوره إلى حركة منظمة تعمل على تحقيق أهدافه ورؤيته لمستقبل لبنان والإنسان، ووضع لهذه الحركة ميثاقًا جسد فيه المبادئ الأساسية لأفكاره.
يتألف ميثاق حركة أمل من 7 مبادئ تشكل عناصر المواطنة جزءًا أساسيًا فيها، فعلى سبيل المثال:
- المبدأ الثالث: الإيمان بحرية المواطن الكاملة، يشرحه الإمام الصدر بالعناوين الآتية:
مفهوم الحرية، وجوب محاربة الإقطاع والإقطاع السياسي، محاربة نظام الطائفية السياسية.
- المبدأ الخامس: حركة المحرومين حركة وطنية، يشرحه الإمام الصدر بالعناوين الآتية:
التمسك بالسيادة الوطنية وسلامة أرض الوطن، محاربة الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان، جوهر الوطنية وأساسها.
- المبدأ السابع: الحركة لا تصنف المواطنين وليست طائفية.
في الختام، يمكن القول أن نصّ الإمام السيد موسى الصدر يمتاز بخاصية يفتقدها الكثير من أصحاب النص السياسي والثقافي والوطني في لبنان، وهي الراهنية والعصرية والمقدرة على الإجابة على التحديات والأسئلة المطروحة على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود من الزمن على إطلاقها، ويكاد يكون الإمام الصدر صاحب المنظومة المتكاملة من الأفكار، التي بنيت بمجملها على أن تكون خيارًا صالحًا وأنموذجًا يُقتدى للفترة الأطول من حياة الإنسان في لبنان في بعدها اللبناني وللإنسان في بعدها الإنساني العام، لذلك نجد أن في هذه المنظومة الفكرية حيّز كبير وواسع لمفهوم المواطنة كأساس عملي وتطبيقي لخلاص لبنان من مشاكله الداخلية، ووضعه على طريق الخروج نحو العصرية والتقدمية والتطور، وهذا ما يدل على أهمية المواطنة في بناء الدولة الحديثة، ودورها في رسم خارطة العمل الفكري للنهوض بالمجتمعات.