لم يعد نظام الهجرة المعتمد في بريطانيا معمولاً به بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ حيث إن نتائج “بريكست” تحتّم اعتماد نظام هجرة جديد.
والهدف من هذا النظام الذي ستعتمده لندن هو تقليص أعداد المهاجرين في البلاد، والتحكم في “الملفات” التي تريدها من خلال الاستناد إلى نظام النقاط والمعايير، وهو مشابه لنظام الهجرة الأسترالي.
وفي نظام الهجرة الجديد لن تصبح للأوروبيين أي ميزة تفضيلية مقارنة ببقية المهاجرين، ويرى رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أن هذا النظام “سيكون أكثر عدلاً” في التعامل مع جميع المهاجرين بالمعايير نفسها.
وبحسب ما تخطط له بريطانيا فإن النظام الجديد سيكون لصالح “الكفاءات” التي تحتاجها البلاد في قطاعات معينة؛ مثل قطاع الصحة أو الخدمات المالية، أما المهاجرون من أصحاب الكفاءات المتوسطة فتوضع أمامهم الكثير من العراقيل، وفي أفضل الأحوال ستمنح لهم تأشيرة الإقامة لسنة واحدة قابلة للتجديد.
والهدف الرئيسي الذي لا تخفيه الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ عهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، هو تقليص أعداد المهاجرين.
وبالعودة إلى أرقام الوكالة الوطنية للإحصاء في بريطانيا سيظهر كيف أن توافد المهاجرين على البلاد بلغ مداه سنة 2015؛ عندما تجاوز سقف المهاجرين 350 ألفاً، قبل أن يعود للتراجع التدريجي منذ 2016، وهي السنة التي صوّت فيها البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي.
وبالفعل منذ تلك السنة وأعداد المهاجرين في تراجع، لتنزل تحت سقف 300 ألف مهاجر خلال العام الماضي، ويبقى الهدف الرئيسي هو الوصول إلى 100 ألف مهاجر سنوياً، وتستنجد الحكومة البريطانية بالنظام الأسترالي لتحقيق هذا الهدف.
الهجرة إلى بريطانيا بمعايير جديدة
تصف مادلين سامسون، مديرة مرصد الهجرة التابع لجامعة أكسفورد، النظام البريطاني الجديد للهجرة بأنه نظام “الطريق الواحد”، أي إنه لن يكون أمام المهاجر أي خيار آخر سوى الاستجابة لكل الشروط والحصول على المعدّل المطلوب.
وسيكون على الراغبين في الحصول على هجرة العمل توفير مجموعة من المعايير المهنية والعلمية والشخصية، وعبرها ستحسب نقاطهم، وبناء على هذه النقاط سيقبل طلب الهجرة أو يرفض.
ومن بين هذه المعايير المستوى التعليمي، وإتقان اللغة الإنجليزية، والحصول على عقد كفالة من شركة بريطانية تضمن منح طالب اللجوء راتباً سنوياً يعادل 27 ألف دولار، وطبيعة البلد القادم منه، وهذه النقطة بالذات ستكون في غير صالح المهاجرين العرب.
وستنظر مصالح الهجرة البريطانية في أصول المهاجر؛ فإن كان ينتمي لدولة تعرف اضطرابات أمنية وسياسية مثل الوضع في عدد من الدول في العالم العربي، فهذا سيؤثر في نقاطه، ومن ثم في حظوظه بالحصول على الموافقة لدخول المملكة المتحدة من أجل العمل.
عامل آخر لن يكون في صالح المهاجرين العرب هو أن الوظائف التي تحتاجها بريطانيا بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تتركز أساساً في قطاع الصحة، وأقرب المرشحين لنيل هذه الوظائف هم الأوروبيون، حيث وعد رئيس الوزراء بوريس جونسون بزيادة عدد الممرضات في المملكة المتحدة بأكثر من 50 ألفاً خلال السنوات الثلاث المقبلة، مما يقلل من حظوظ المهاجرين الآخرين القادمين من دول أخرى.
مساوئ القانون الجديد
بدورها أصدرت اللجنة الاستشارية للهجرة والمكفول تقريرها النهائي الخاص بملامح نظام الهجرة الجديد في بريطانيا، وتأثيره على الاقتصاد في البلاد وتدفق المهاجرين إليها، وتجزم اللجنة بأن النظام الجديد سيؤدي إلى تراجع ملحوظ في عدد المهاجرين الوافدين على البلاد، محققاً بذلك هدف بوريس جونسون.
وتقول اللجنة إن لهذا النظام أوجهاً إيجابية عديدة تسهم في الرفع من مداخيل خزينة الدولة؛ بالنظر إلى الرسوم التي سيدفعها كل راغب في الحصول على تأشيرة عمل في بريطانيا، وتقليل الضغط على الخدمات العامة من مدارس ومستشفيات ومجالس البلدية.
في المقابل يتوقع تقرير اللجنة المكون من أكثر من 276 صفحة أن يكون لهذا النظام الجديد تأثير سلبي على الاقتصاد البريطاني والنمو الديموغرافي في البلاد على المدى البعيد.
ويقول التقرير إن من شروط الحفاظ على تنمية اقتصادية هو التوفر على كتلة بشرية مهمة وغالبيتها من الشباب، وفي حال تقليص عدد المهاجرين بعدد كبير فهذا سيؤدي لتراجع في النمو الديموغرافي.
وتشير تقديرات اللجنة الاستراتيجية للهجرة إلى أن النظام الجديد سيؤدي لارتفاع طفيف في نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام والإنتاجية العامة في البلاد، وإلى نمو “بسيط” أيضاً في المالية العمومية للمملكة المتحدة، والتقليص من الضغط على النظام الصحي والمساعدات الاجتماعية في البلاد.
ويبقى التأثير السلبي الكبير من وجهة نظر هذه اللجنة هو “التراجع الكبير في نشاط المشاريع الصغرى والمتاجر، وهو النشاط الذي يشتغل فيه المهاجرون بكثافة، وسيعرف تراجعاً إذا استقدمت بريطانيا كفاءات عالية فقط”.
وتظهر خلاصات اللجنة التي سيكون على الحكومة البريطانية النظر فيها أن الكثير من المغالطات جرى ترويجها بخصوص الهجرة في بريطانيا؛ حيث تحولت إلى شماعة للكثير من الأزمات التي تعيشها البلاد، خاصة على الصعيد الاقتصادي.
هجرة عكسية
وكانت لندن كشفت، في وقت سابق، عن أرقام جاءت عكس توقعات الحكومة البريطانية والمواطنين على حد سواء؛ حيث سجلت أعداد المهاجرين من المملكة المتحدة وإليها أعلى رقم للمغادرين منذ عقد من الزمن.
وقالت وزارة الداخلية البريطانية، في بيان لها في فبراير 2018، إن عدد مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يغادرون المملكة المتحدة هو الأعلى خلال السنوات العشر الماضية، حيث بلغ 130 ألف شخص في 2019.
النسبة الكبيرة من الأوروبيين المغادرين واجهها 220 ألفاً انتقلوا إلى المملكة المتحدة في الفترة نفسها، وفقاً لمكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني، وهذا يعني أن صافي الهجرة في الاتحاد الأوروبي (الفرق بين القادمين والمغادرين) كان 90 ألفاً، وهو أدنى مستوى خلال خمس سنوات.
وقال المكتب إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يكون عاملاً مهماً في قرارات الناس بالتحرك، سواء من بريطانيا إلى خارجها أو العكس.
وذكر نيكولا وايت، من مكتب الإحصاءات الوطني، “أن الهجرة معقدة ويمكن أن تتأثر بأسباب مختلفة”.
وتظهر الأرقام أيضاً أن المزيد من البريطانيين هاجروا منذ فترة، لكنهم قرروا العودة للعيش في بريطانيا.
وكان وصول مواطني الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة لأسباب مهنية، ولا سيما “البحث عن عمل”، وذلك في نهاية 2017 وبداية 2018.
وبوجه عام فإن صافي الهجرة يقدر أنه انخفض بما يتراوح بين 29 ألفاً و244 ألفاً في الفترة نفسها.
وفي العامين السابقين لاستفتاء يونيو 2016، كان عدد مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يصلون إلى بريطانيا مستقراً ما بين 240 ألفاً إلى 280 ألفاً.
لكن بعد ذلك الحين تم تسجيل انخفاضات من 284 ألفاً إلى 220 ألفاً، وفي الوقت نفسه بدأ عدد خريجي الاتحاد الأوروبي، الذي لم يرتفع أعلى من 100 ألف منذ عام 2010، في الارتفاع من 95 ألفاً إلى 130 ألفاً.
وسواء كان السبب الشعور بأن مواطني الاتحاد الأوروبي غير مطلوبين في المملكة المتحدة، أو عدم اليقين بشأن مستقبلهم، أو القوة النسبية المتنامية لاقتصادات دول الاتحاد الأخرى، فقد حدث تحول ملحوظ بعيداً عن شواطئ بريطانيا.
اجتذاب الأذكى
كارولين نوكس، وزيرة الهجرة البريطانية، قالت في وقت سابق إن آخر الأرقام أظهرت أن المملكة المتحدة ما زالت تجتذب “أذكى أفراد الشعب”، وذلك للعمل والدراسة، ووصفت الزيادة في عدد الطلبة الأجانب بأنها “إيجابية ضخمة”.
وأضافت: “إننا نريد إقامة علاقات كبيرة مع جيراننا الأوروبيين في المستقبل، ولكننا بالوقت ذاته نحتاج إلى نظام مستدام للهجرة”.
جيسي (29 عاماً)، فرنسية تعيش في بريطانيا، وتعمل منذ أن تخرجت في كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال، قالت لـ”الخليج أونلاين”: “إلى الآن لا شيء يدفعني إلى الهجرة من بريطانيا، غير أن الأصوات باتت تتعالى بأن الأمور ستصبح أسوأ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، حتى هذه اللحظة أنا موجودة ولكن إن اقتضت مصلحتي الرحيل فلن أتأخر”.
أما صديقتها لوري (24 عاماً) من إسبانيا فقالت لـ”الخليج أونلاين”: “أنا طالبة حقوق في الجامعة أنتظر تخرجي الصيف المقبل لأعود إلى بلدي، وهذا ما كنت أرسم له قبيل فكرة الخروج من بريطانيا، لكنَّ اثنتين من صديقاتي قد غادرتا فعلاً إلى إسبانيا لأن فرص العمل باتت غير مجدية بالنسبة للراتب”.
وتظهر أرقام مكتب الإحصاءات الوطني البريطاني أيضاً أن المملكة المتحدة منحت في العام 2017 اللجوء وأشكالاً بديلة للحماية أو إعادة التوطين لما يقرب من 15 ألف شخص، 40% منهم دون سن 18 عاماً.
وأظهرت أرقام منفصلة من وزارة الداخلية أن أكثر من 10 آلاف و500 شخص قد منحوا اللجوء في المملكة المتحدة بعد فرارهم من الحرب السورية، بإطار خطة إعادة التوطين.
وجدير بالذكر أن بريطانيا باشرت، في مارس 2017، بعد تسعة أشهر من التصويت لمصلحة الخروج، عملية “بريكست” التاريخية للانفصال عن التكتّل الأوروبي، الذي انضمّت إليه بتحفّظ قبل 44 عاماً.
وتبقى السلبية في موضوع الهجرة أنها تعطي تشاؤماً بعدم الاستقرار المالي أو الوظيفي لبريطانيا، في ظل مرحلة الانتقال من الاتحاد إلى الرجوع بصفة دولة منفصلة عنه.
وفي النهاية تبقى بريطانيا دولة عظمى، لها ما يجعلها قبلة للهجرة ومكاناً ملائماً للعمل والأمن والأمان، على خلاف مناطق أخرى كثيرة في العالم.