أخيراً ظهر قرار الوزير جمال الجراح القاضي بزيادة الراتب الأساسي لرئيس أوجيرو من 4 ملايين إلى 9 ملايين ليرة. لم يعد الأمر مقتصراً على مخالفة الجراح للأصول القانونية بتعديله مرسوماً بقرار. ما كُشف ليس حتى قرار، هو مجرد فقرة تافهة كُتبت بخط اليد على «مسوَّدة»، من دون ختم ولا تاريخ. لكن هذه الفقرة ساهمت في هدر مئات الملايين من المال العام، وما على القضاء إلا أن يضع حداً لهذا الملف الممتد منذ عام 2017
كثيرة هي الملفات التي دفعت بالمدعي العام المالي علي إبراهيم للادعاء على الوزراء نقولا صحناوي وبطرس حرب وجمال الجراح، إضافة إلى المدير العام لأوجيرو ومديري شركتي ألفا وتاتش. لكن بالرغم من كثرة هذه الملفات، الكفيلة بفتح السجون، إلا أن مسألة راتب المدير العام لأوجيرو عماد كريدية، تبدو بحسب متابعين للملف، أبعد من هدر مال عام أو إثراء غير مشروع أو تزوير لمستندات رسمية. هي تعبّر عن طريقة إدارة الشأن العام واستخفاف المسؤولين بالقوانين واستسهالهم خرقها، والأهم أنها تعبّر عن ثقة المؤتمنين على المال العام بأنهم فوق المحاسبة.
بخفة متناهية، قرّر وزير الاتصالات السابق جمال الجراح، في 17 شباط 2017، زيادة الراتب الأساسي لرئيس أوجيرو من 4 ملايين إلى 9 ملايين. هذا تماماً ما كشفه كريدية نفسه في 20 حزيران 2018 (مقابلة مع النهار)، عارضاً الجزء الأعلى من وثيقة تحمل الرقم 648/ا/و، قال إنها تعود إلى قرار الجراح.
في الشكل، وقبل معرفة مضمون الكتاب، من البديهي الإشارة إلى أن أي قرار يصدر عن وزير الاتصالات بشأن تحديد أو تعديل راتب رئيس -مدير عام أوجيرو هو قرار غير قانوني. ببساطة، لأن ذلك ليس من صلاحيات الوزير، الذي يتوجّب عليه، إذا أراد تعديل راتب رئيس أوجيرو أو راتب أحد عضوي مجلس الإدارة، أن يرسل اقتراحاً بذلك إلى مجلس الوزراء الذي، إذا وافق على الاقتراح، يُصدر مرسوماً جديداً يحدّد فيه التعويضات الجديدة. إذ لا لبس أن المرسوم الساري المفعول حالياً، هو المرسوم رقم 3157 تاريخ 5/6/2000 (يحدد التعويضات الشهرية لرئيس مدير عام أوجيرو بمبلغ أربعة ملايين ليرة لبنانية). وهو ما أكدت عليه هيئة الاستشارات والتشريع في الاستشارة التي أصدرتها في 30 أيلول 2019، وأشارت فيها إلى أنه «لا يمكن أن يُعدّل إلا بموجب مرسوم عملاً بقاعدة الموازاة في الصيغ».
باختصار، يُشكّل وجود مثل هذا المستند تعدّياً على صلاحيات مجلس الوزراء ومخالفة قانونية ومالية وإدارية جسيمة. لكن مهلاً، هل يوجد فعلاً مستند رسمي؟
بحسب مصادر مطلعة، فإن المعاملة رقم 648/ا/و، تعود إلى معاملة تقديم طلب خط ساخن من قبل جهاز أمن المطار، تم استلامها من قبل أمانة سر الوزير في 25 شباط 2017، ثم أحيلت على الدوائر المعنية لتنفيذها.
بعيداً عن صحة ذلك المضمون، فإن ما يمكن تأكيده هو أنها لا تتعلق بتعويضات كريدية. هذا على الأقل ما تكشفه رسالة مدير الموارد البشرية في أوجيرو بسام جرادي إلى كريدية في 20 نيسان 2017. في تلك الرسالة يسأل جرادي عن مصير «إحالة معالي وزير الاتصالات رقم 703/هـ أ/2017 تاريخ 17/2/2017، المتعلقة بتحديد الراتب الأساسي لسعادة الرئيس – المدير العام لهيئة أوجيرو». وبذلك يتضح أن التاريخ هو نفسه لكن رقم الإحالة أو القرار مختلف.
هذا ليس كل شيء. يقول جرادي «بما أنه لغاية تاريخه لم يصدر المرسوم الذي يُحدّد بموجبه الراتب الأساسي للرئيس – المدير العام لأوجيرو، بذلك يرجى التفضّل بالاطلاع والإحالة إلى حضرة معالي وزير الاتصالات جمال الجراح للتوجيه بهذا الخصوص». يسترسل جرادي في شرح الموقف، فيقول «علماً أن سعادتكم لم تتقاضوا أي راتب من الهيئة رغم مباشرتكم العمل في 24/1/2017 ولغاية تاريخه، مع الإشارة إلى أن موضوع تقاضيكم سلفاً على الراتب من دون تحديده هو تدبير مؤقت».
إضافة إلى الإشكالية المتعلقة برقم الإحالة، يبدو مضمونها غريباً، فلماذا يفترض جرادي أن مرسوماً سيصدر؟ ولماذا يعتبر أن عدم صدور مرسوم جديد يؤدي إلى إعاقة حصول كريدية على راتبه؟ ولماذا لا يطبق المرسوم النافذ، إلى حين تعديله، بدلاً من اللجوء إلى بدعة السلف؟ ووفقاً لأي نص قانوني تقرّر إعطاء كريدية سلفاً على الراتب بدلاً من الراتب نفسه؟ وهل يعقل أن يشير جرادي إلى عدم صدور أي مرسوم لغاية تاريخه، في الوقت الذي يدرك، هو الذي تخطى العشر سنوات في منصبه، أن مرسوم عام 2000 ما زال نافذاً، وقد كان جزءاً من بناءات قرار تعيين كريدية. أضف إلى أن جرادي نفسه سبق أن اعتمد على مرسوم عام 2000لتحديد تعويضات جميع رؤساء الهيئة الذين سبقوا كريدية.
في المحصلة، وفي التاريخ نفسه، حوّل كريدية كتاب مدير الموارد البشرية إلى الجرّاح راجياً «التفضّل بالاطلاع على إفادة المديرية المختصة…».
بعد أربعة أيام (24/4/2017) ردّجمال الجراح على الكتاب بالتالي: «تُعاد إلى هيئة أوجيرو مع الإصرار والتأكيد على ما ورد في إحالتنا موضوع الكتاب».
عن أي إحالة يتحدّث جرادي وعن أي إحالة يتحدّث الجراح؟ تلك فضيحة بكل المعايير. في مستند حصلت عليه «الأخبار»، يتبين أن تلك الإحالة هي عبارة عن فقرة كُتبت على «وثيقة توزيع بريد» خاصة بأوجيرو، أي على ورقة داخلية لا قيمة قانونية لها. وهي تُلصق عادة على مغلف يحتوي على معاملة أو مراسلة أو كتاب، ويُكتب عليها رقم وتاريخ المعاملة وموضوعها، مع ترك خانة لتوقيع المستلم وخانة لتوقيع الموزّع. بحيث يكون الهدف من وثيقة توزيع البريد، ضمان إمكانية تعقّب المعاملة في حال حصلت أي إشكالية. الوثيقة موضوع النقاش، يعلوها شعار «أوجيرو» كُتب عليها أيضاً «ظرف مغلق يسلّم باليد»، ووجهت إلى وزير الاتصالات، وفي الوقت نفسه «لعناية السيد بلال حسن أو السيد نبيل يموت».
في أسفل تلك الورقة، التي لا تشكل وثيقة ولا مستنداً ولا معاملة، كُتب بالخط اليد «جانب هيئة أوجيرو، لما كان آخر تحديد لمعاش وتعويضات رئيس – مدير عام هيئة أوجيرو قد صدر في العام 2000، حيث كان الحد الأدنى للأجور 300 ألف ليرة، وحيث إن الحد الأدنى أصبح اليوم 675 ألف ليرة، وإذا طبقنا المعادلة يصبح معاش رئيس / مدير عام تسعة ملايين»!
تنتهي تلك «الإحالة» بتوقيع الوزير جمال الجراح، لكن من دون ختمه، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في الإصرار والتأكيد الذي وقّعه في 24/4. علماً أن أي إحالة من قبل الوزير عادة ما تكون مرفقة بـ«وثيقة إحالة» وهي نموذج معتمد من قبل الإدارات العامة، ويعلوها شعار الجهة صاحبة الإحالة (وزارة الاتصالات في هذه الحالة)، ولا تكون رسمية إذا لم تُمهر بختم الوزير.
كل ذلك لم يحصل. مجرد ورقة كُتبت على عجل بخط اليد ومن دون ختم، وعلى وثيقة غير رسمية ومن دون تاريخ. فهل يعقل أن تخرج هكذا إحالة من وزير في الحكومة؟ وهل يجوز أن تصل الخفة إلى حد الارتكاز على أسباب موجبة مثيرة للسخرية؟ وهل يجوز أن يحدد راتب بالاعتماد على القاعدة الثلاثية، ومن دون ذكر الرأي أو المطالعة القانونية التي يُستند إليها في اعتماد هذه المعادلة؟ وهل يمكن أن لا تستند الإحالة إلى اقتراح أو رأي أي دائرة من دوائر الوزارة، ومن دون أن تحمل أي رقم تسجيل لدى أمانة سرّ الوزير؟ وهل يجوز أن لا يتم إبلاغ هذه الإحالة إلى أي جهة في وزارة الاتصالات، كما جرت العادة؟ وحتى مع افتراض أن الأسباب الموجبة لتعديل راتب مدير أوجيرو هي أسباب محقة، ألا يجب عندها أن تشمل عضوَي مجلس الإدارة أيضاً؟
تلك فضيحة بكل المقاييس. وبما أن القضية أمام القضاء، بعد أن ادعى إبراهيم على وزراء الاتصالات وعلى مدير أوجيرو، وحوّل الملف إلى قاضي التحقيق الأول، يبقى أن يتم تقديم إجابات للرأي العام، تمهيداً لمعاقبة المتورطين في هدر المال العام، وتمهيداً لإلزامهم بإعادة هذا المال.