الجمهورية ـ عماد مرمل
بعد أعوام من الهروب الى الأمام وشراء الوقت بأثمان مرتفعة، اكتشفت الدولة اللبنانية أنها لم تعد قادرةً على مواصلة «التحايل» على الأزمة الاقتصادية – المالية، وأنّ «ألعاب الخِفَّة» التي أتقنتها لفترة من أجل تمويه الحقيقة باتت مكشوفةً وعاجزةً عن الاستمرار في خداع أحد.
إنها لحظة الاستعداد للدخول الى غرفة العمليات واجراء الجراحة المؤجّلة، بعدما ضاقت الخيارات وانتفى هامش المناورة، لكن المشكة الآن تكمن في طريقة توزيع أعباء العلاج المُكلِف وفي القدرة على تحمل أوجاعه، خصوصاً وأنّ حقن «البنج» اصبحت منتهية الصلاحية ولم تعد تنفع في تخدير الألم.
وتعكس الاضرابات التي اجتاحت عدداً من القطاعات الحيوية، الحجمَ الذي وصل اليه المأزق الاقتصادي – المالي، خصوصاً أنّ جزءاً كبيراً من «المنتفضين» على نمط المعالجة المعتمدة ينتمي الى المؤسسات والإدارات العامة التي نادراً ما كانت تندفع نحو «العصيان الوظيفي» في مواجهة الدولة، الامر الذي دفع رئيس الحكومة سعد الحريري الى إصدار مذكرة شديدة اللهجة، تحذّر المضربين من التبعات المرتّبة على توقفهم عن العمل.
والخطير، انّ هذه الحركة الاحتجاجية ترافقت مع شائعات وتحليلات استهدفت الليرة اللبنانية والعلاقة بين رئيس الجمهورية ميشال عون وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ما تسبّب في بلبلة داخلية واضطراب في نبض سوق القطع، على وقع مخاوف من الإفلاس والانهيار.
وعُلِم انّ تداعيات الترويج باحتمال وقوع انهيار مالي تجاوزت الحدود اللبنانية، حيث كشفت شخصية اقتصادية كانت تبحث مع الروس والصينيين في إمكان تعزيز حضورهم الاقتصادي في لبنان، انّ هؤلاء فقدوا حماستهم للاستثمار في قطاعات استراتيجية وباتوا يميلون الى إبطاء إيقاعهم، إما لانتفاء حافز الإتيان الى دولة مهددة بالافلاس، وإما لاعتقادهم أنهم يستطيعون الحصول لاحقاً على مشاريع معيّنة بأسعار متدنّية. ولكن، ما هي حقيقة العلاقة بين عون وسلامة حالياً؟ وهل صحيح أنها متوترة ومسكونة بالهواجس المتبادَلة؟
ربما كان سلامة هو خيار الضرورة، وليس الخيار المفضل، لدى عون، إلّا انّ ذلك لا يعني حُكماً انّ هناك حرباً تدور بين الرئيس و«الحاكم» على خطوط التماس المالية، على حد ما يؤكد القريبون من الرجلين.
يعرف رئيس الجمهورية انّ «سلامة النقد» في هذه المرحلة هي من «سلامة رياض» بحكم الامر الواقع وكنتيجة تلقائية للسياسات الاقتصادية والنقدية التي اتُبعت منذ سنوات طويلة وأنتجت هذا الترابط الذي لا يحبّذه عون، لكنه لا يتجاهله، وبالتالي فهو ليس في صدد خوض معركة عبثية وفي توقيت غير مناسب ضد «الحاكم»، خصوصاً انّ ولايته جُدِّدت منذ فترة غير طويلة، وهي تنتهي بعد سنة من نهاية ولاية عون الرئاسية.
ومعروف أن حاكم مصرف لبنان لا يمكن ان يزاح عن موقعه بعد تعيينه، إلاّ إذا انطبقت عليه واحدة من الحالات الآتية: الخيانة، الجنون، الاستقالة، الوفاة. غير ان واقعية عون في التعاطي مع هذا الملف ومعرفته بغياب البديل عن سلامة حتى إشعار آخر، لا يمنعانه من الدفع في اتجاه تصويب مسار السياسة النقدية وتكييفه مع متطلبات تنشيط الاقتصاد وتعزيز مشاركة المصارف في جهد الانقاذ وأعبائه.
وتؤكد شخصية اقتصادية تتحرك بعيداً من الاضواء على خط قصر بعبدا- مصرف لبنان، ان العلاقة بين عون وسلامة في هذه المرحلة هي على ما يرام، وان الاجتماع بينهما قبل ايام كان ممتازاً، وأكد خلاله رئيس الجمهورية لـ«الحاكم» ان ما اشيع عن وجود نية لانهاء او تقليص استقلالية مصرف لبنان غير صحيح، وليس سوى «مسخرة». ويعتبر أحد اصدقاء سلامة انه لو كان مكانه لهدد بالاستقالة رداً على الحملات التي يتعرض لها من حين الى آخر، وذلك على قاعدة «كلكم تحتاجون الي فلماذا تهاجمونني»، مشيراً الى أن «من حسن حظ» بعض خصوم «الحاكم» انه لا يمارس هذا النوع من الضغوط، وملاحظاً ان هؤلاء يقدمون له الهدايا المجانية، لأنهم يضطرون في كل مرة الى الاستعانة به مجددا والتسليم بعدم امكان الاستغناء عن دوره.
ويلفت «صديق» الحاكم الى ان سلامة اصبح جزءا عضوياً من «الستاتيكو المالي» الصامد حتى الآن، وبالتالي فان المتحمسين لإقصائه يجب ان يعلموا ان إحراجه لاخراجه سيؤدي الى تداعي هذا الاستقرار النقدي، مع ما سيرتبه ذلك من انعكاسات سلبية على مجمل الوضع الاقتصادي، لافتا الى ان من الخطأ الاعتقاد ان في الإمكان تجزئة المعالجات واعتمادها انتقائياً «إذ ان الامر لا يتعلق بـ«قالب كاتو» في إستطاعتهم ان يقتطعوا منه ما يريدون، وانما هناك معادلة اقتصادية – مالية متكاملة يشكل سلامة ضلعاً أساسيا فيها، وأي بحث في تغييره لا يستقيم من دون تغيير أصل المعادلة واعتماد خيارات جديدة».