كتبت “الأخبار”:
تضخّم الأسعار كان إحدى النتائج الأساسية للأزمة المركّبة التي انفجرت في عام 2019. فمنذ ذلك الوقت، شهد الاقتصاد اللبناني زيادة شهرية كبيرة في الأسعار انعكست انهياراً في القدرة الشرائية، علماً أن هذه الزيادات متواصلة إلى اليوم. ولم تصدر أي تقارير رسمية تفسّر أسباب هذا التضخّم ومحرّكاته، بل بدا أن الاهتمام الرسمي به محصور بعمليات الرصد التي تصدرها إدارة الإحصاء المركزي باعتباره نتيجة تلقائية لانفجار المصارف والليرة. لكنّ منظمة «إسكوا» حاولت تحليل هذه الظاهرة وبدا عليها التشويش في قراءة المحرّكات وفي عملية قياسها. فرغم أنها رأت أن الأمر بدأ بانهيار سعر الليرة مقابل الدولار، وتحفّز بإفلاس المصارف وبتعاميم مصرف لبنان التي خلقت تعددية في أسعار الصرف الفعلية، إلا أن المؤشرات الحسابية التي اعتمدها بناءً على سعر الصرف الرسمي، أظهرت أن العجز الحكومي هو السبب الأساسي. مفارقة مستغربة لمنظمة تدّعي أنها تنفّذ دراسة علمية ثم تقول إنه يجب التعامل بحذر مع نتائجها.
يخلص تقرير «إسكوا» الصادر بعنوان «مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية 2022- 2023» إلى أن مسار التضخّم في لبنان «مثير للاهتمام»، إذ يشير التقرير إلى أنْ لا علاقة بين التضخّم واتجاهات سعر الصرف الرسمي، لكنه يذكر أن سعر الصرف الرسمي لا يعكس القيمة السوقية لليرة اللبنانية، والخفض الحاد لقيمتها بشكل رسمي، لذا، فإن النتاج التي تُبنى على النماذج الرياضية «يجب التعامل معها بشيء من الحذر»، إنما بشكل عام «ساهم الإنفاق الحكومي والتضخم المستورد وعمليات طباعة النقود بقوّة في تسارع التضخّم. وفي المقابل، يقول التقرير إن مساهمة انهيار سعر الصرف في التضخّم كانت متدنية إلى 3% مقابل ارتفاع مساهمة الإنفاق الحكومي إلى 36.9%. وبحسب النتائج أيضاً، ظهر أن أسعار الطاقة ساهمت في التضخّم بنسبة 10.2%، وأن الاستيراد ساهم بنسبة 28.2% والطلب الاستهلاكي بنسبة 11.5%.
هذه التناقضات في التقرير تعكس النتائج المضلّلة، وتظهر ما أرادت الحكومة إظهاره من خلال التأخر المقصود في الاعتراف بسعر الصرف الفعلي الذي بلغ اليوم 89500 ليرة مقابل الدولار، والتمسّك بسعر صرف اسمي بقيمة 1507.5 ليرات مقابل الدولار. وحسابات «إسكوا»، لا تأخذ في الاعتبار سعر الصرف الفعلي، ولا دعم استيراد السلع، ولا إفلاس مصرف لبنان والمصارف دفعة واحدة، ولا قرار دولرة الأسعار في السوق وتأثيره على التضخّم. لذا، ينحو التقرير نحو التركيز على العجز الحكومي كسبب أساسي للتضخّم، أي أن الحكومة عوّضت عن تدني الإيرادات من خلال طباعة العملة.
هكذا يظهر التقرير فارغاً من المعطيات الفعلية عن الأزمة وتطوّراتها. فالمالية العامة في لبنان لم تسجّل عجزاً في عامي 2021 و2022. فرغم انخفاض الإيرادات من 20.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018 إلى 13.1% في عام 2021 و7.5% في عام 2022، إلا أن العجز الأولي الذي يقيس الفرق بين النفقات الفعلية والإيرادات المحقّقة، أظهر أنه تحوّل من عجز في عام 2018 بنسبة 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى فائض في عام 2021 بنسبة 1.9% وبنسبة 0.9% في عام 2022. كما أن العجز الكلّي كان 11% في عام 2018 ثم تحوّل إلى فائض إيجابي بنسبة 1% في عام 2020 وبنسبة 0.3% في عام 2022.
ما هو واضح في حسابات «إسكوا» أن حصّة التضخّم الخارجي المستورد تصل إلى الثلث، وهذا المستوى متدنّ ربطاً باعتماد لبنان على استيراد أكثر من 80% من حاجاته السلعية من الخارج. فضلاً عن اعتماد لبنان على استيراد المحروقات لتشغيل معامل الكهرباء ولتأمين تنقلات خصوصية لغالبية السكان، يفترض أن تكون مساهمته وازنة أيضاً. لكنّ المشكلة في هذه الحسابات أن التضخّم العالمي بدأ في مطلع 2022، وبالتالي يفترض أن ينعكس في هذه السنة وحدها على الأسعار المحلية، وليس في السنة السابقة.
يعترف التقرير بأن هناك تأثيراً «معقّداً» لتعاميم مصرف لبنان التي أفضت إلى العمل بأسعار صرف متعدّدة، وإلى المضاربة في سوق العملة، لكنه لا يفسّر هذه الظاهرة بكل تفاصيلها. فمصرف لبنان بدأ يطبع العملة في اليوم الأول للأزمة، ولم يكن هدفه تنقيد العجز أو تمويل العجز من خلال الطباعة، بل كان يحاول تذويب خسائر المصارف من خلال هذه العملية. في التعاميم الأولى التي أصدرها، أتاح مصرف لبنان لعدد كبير من المودعين سحب أموالهم المودعة بالليرة ضمن سقف حسابات لا يتجاوز 5 ملايين ليرة شهرياً، مضاعفة ومموّلة بطباعة النقد. واستمرّ يموّل المصارف والصرّافين بكميات وافرة من السيولة بالليرة اللبنانية لشراء الدولارات من السوق لحسابه، وهذا الأمر لم يكن يتم لولا تعدّد أسعار الصرف الذي ترك هامشاً مقصوداً للمضاربات، أي أن الربح الذي يحقق المضارب هو دافعه للتخلّي عن الدولارات وبيعها لمصرف لبنان. فمن كان يموّل شراء كل هذه الدولارات كان مصرف لبنان. وقد جرى تشريع هذه الحالة من خلال التعميم الذي أنشأ منصّة «صيرفة» والتعميم 161. لا بل إن الزيادات في الأجور التي حصلت للقطاع العام تكاد لا تُذكر في عامي 2021 و2022، وكانت نفقات الحكومة التي يتركّز القسم الأكبر منها في الرواتب والأجور وملحقاتها ومصاريف التشغيل الأخرى، تسجّل 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 و5.7% من الناتج في عام 2022، أي أقل مما تسجّل الإيرادات.
رغم ذلك، يشير التقرير إلى أمر بالغ الأهمية في مسار الدول العربية التي عانت من تضخّم مرتفع (لبنان، مصر والسودان)، إذ يقول إن هذه البلدان تتعرض لصدمات مختلفة نتيجة لانفتاح اقتصاداتها واندماجها في النظام المالي العالمي. بمعنى أوضح، إن تأثيرات جائحة كورونا والاختلالات التي سبّبتها في سلاسل التوريد أصابت هذه البلدان بشكل واضح، وكذلك الحرب في أوكرانيا، ثم ارتفاع أسعار الطاقة العالمية وارتفاع أسعار الغذاء، فضلاً عن أن هذه البلدان تعاني من «سياق سياسي غير مستقر»، وضعف في المؤسسات وتعطّل في قنوات التوزيع.
وفي موازاة الحديث عن العجز الحكومي، يبدو التقرير أكثر تشتتاً عندما يقول في مقدّمة الدراسة عن التضخّم في لبنان، إنه يُعزى إلى المسار الآتي: «انخفاض هائل في قيمة الليرة، انعدام الثقة بالنظام المالي، الزيادة الكبيرة في المعروض النقدي، التأثير المعقّد لتعاميم مصرف لبنان التي أفضت إلى العمل بأسعار صرف متعدّدة وإلى المضاربة في سوق العملة. وفي الوقت نفسه أسفر انهيار إيرادات الميزانية عن انخفاض حادّ في الإنفاق العام وعن تمويل الإنفاق الحكومة تمويلاً نقدياً وهو ما أمعن في زيادة التضخّم».
الأخبار