كتب واصف عواضة:
كانوا يجلسون غالبا كل مساء عند “لفّة الكوع ” على المدخل الغربي للناقورة، حيث شيّد المرحوم الحاج أحمد هادي مهدي منزله عند قدم الضيعة قبل أن تتوسع وتتحول إلى نصف مدينة.
هم نفر من شباب البلدة وفّر لهم علي أحمد مهدي(كما والده) إستراحة ومجلسا يتنادمون فيه شؤونهم ،يستذكرون ويتمازحون ويتشاكون هموم الضيعة وأحوال البلد.وكنت أحيانا أعرّج عليهم وأجالسهم ،مع أنهم ليسوا من أبناء جيلي ،لكنهم كانوا ينشرحون ويُسعدون بأن صحافيا وكاتبا وإعلاميا مثلي يتداول معهم همومهم وهموم البلد ،فيُكثرون من الأسئلة التي يعتقدون أن في جعبتي الجواب لكل سؤال.
كان علي مهدي الشاب الممتلئ حيوية ونشاطا يدورعليهم بابتسامته الدائمة ومحياه البشوش، موزعا فناجين القهوة والمياه،بعد أن زرع عند الكوع “ماكينة فايما”،ليس بهدف كسب الرزق، بل سعيا وراء مجلس يجمع أبناء جيله،بعد أن خلت البلدة من المقاهي الجامعة للناس.
كان واضحا أنهم يحبون عليّ من دون محاباة أو ممالأة، تماما كما يحبه أهل الضيعة، وهو الموظف في إحدى الشركات التابعة لكهرباء لبنان، على قلة حضور التيار الكهربائي في الضيعة. لكن عليّ كان كالنحلة نشاطا وحيوية، فلا يخلّ في طلب قاصد أو صاحب حاجة تتصل بمهنته،فتراه “متعمشقا” أعمدة الكهرباء لإصلاح خلل أو وصل ما انقطع.
منذ بدأت الأحداث في أكتوبر الماضي على هدي حرب غزة ،غرقت الناقورة كغيرها من القرى الحدودية في جنوب لبنان في لجّة هذه الحرب. قُصفِت البلدة أكثر من مرة، وتهدمت وتضررت عشرات المنازل فيها، وصار القصف المدفعي والجوي على أطرافها خبرا يوميا في وسائل الإعلام، وباتت “اللبّونة” و”حامول” و”جل العلام”،أسماء متداولة في كبريات المجالس الدولية ،فضلا عن وسائل التواصل والإعلام العالمية.
نزح معظم أبناء البلدة والحالة هذه إلى المناطق الأكثر أمنا، خاصة إلى مدينة صور، لكن علي مهدي صمد في منزله معاندا القدر والعدوان والقصف المستمر وظل مجلسه عند الكوع قائما، يستقبل بعض من صمد من أبناء البلدة، والذين كانت لديهم مهمات إنسانية كالإسعاف والدفاع المدني والخدمات الأساسية، فضلا عن الشباب الذين يزورون البلدة نهارا.
مساء الأربعاء الماضي أغارت مسيّرة إسرائيلية على مجلس علي مهدي ،حيث كان بعض الشباب يستعدون لإغاثة البلدة الجارة طيرحرفا، بعد أن أغارت مسيّرة أخرى على مركز الإسعاف فيها. سقط علي مهدي شهيدا ومعه ثلاثة من خيرة أبناء البلدة (عصام وحسين جهير وعلي يزبك) وأصيب آخران إصابات بليغة (خليل عواضة ومصطفى الشعبي).
فُجِعت الناقورة بالخبر، وبكت حزنا وأسى على عليّ ورفاقه الذين كنت أطلق عليهم إسم “فرسان الكوع”. وأزعم أنني حزنت جدا على هؤلاء الفرسان وحارسهم الأمين علي مهدي الذي خبرته جيدا خلال إقامتي في السنة الأخيرة في البلدة. لم يكن هؤلاء أول الشهداء في الناقورة، فقد سبقهم كثيرون ممن تزيّنت البلدة بصورهم خلال عقود طويلة. لكن شهادة هؤلاء الفرسان كان لهم في ضمير البلدة وأهلها وقعا مختلفا، ربما لأنهم أُخِذوا غدرا، ولم يكن في يدهم سلاح المقاومين الذين ارتقى منهم المئات خلال الأشهر الماضية على طريق القدس في طول الحدود الجنوبية وعرضها.
لن تنسى الناقورة هؤلاء الفرسان، وستظل تذكرهم وتتذكرهم، وسيفتقد الشباب مجلس علي مهدي عند كوع الناقورة الذي تعمد بالدم. أنزل الله عز وجل شآبيب الرحمة على أرواحهم، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.