الوضع في غزة بات خارج القدرة على توصيفه، في ظلّ حرب الدّمار الشّامل التي تشنّها اسرائيل على المدنيين في القطاع. التي أخذت مساء امس، منحى في منتهى القسوة والعنف، ترجمه العدو بغارات جوية كثيفة وقصف صاروخي شديد العنف على الجانب الشمالي من القطاع، ترافقت مع تحركات عسكريّة اسرائيلية بريّة اوحى وكأنّ إسرائيل قد اتخذت قرارها باجتياح قطاع غزة.
تزامناً مع القصف العنيف، قطعت الإتصالات وشبكة الإنترنت في غزة، فيما طلب مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو زيادة الضغط على حماس، حيث نقلت وكالات الأنباء عن مسؤول أميركي قوله «إن الإسرائيليين يقومون بتوغّل محدود في غزة ووافقوا على دخول دعم إنساني بالتزامن مع العملية»، فيما أعلن المتحدث بإسم الجيش الإسرائيلي «ان العمليات الموسعة الجارية في غزة الآن (مساء امس) ليست الغزو البري الرسمي، وإن سلاح الجو الإسرائيلي يهاجم بشكل واسع في غزّة، والقوات البرية توسع عملياتها هذه الليلة» فيما أعلنت حركة «حماس» إستعدادها لمواجهة العدوان، وكثفت قصفها الصاروخي لمستوطنات غلاف غزة وصولاً الى تل أبيب واسدود وعسقلان وسديروت». وتزامناً مع ذلك أيضاً، أعلن وزير الخارجية الأردني أن اسرائيل بدأت للتو عملية برية في غزة، وستكون نتيجتها كارثة إنسانية لسنوات طويلة.
يشار في هذا السياق الى أن تقديرات متتالية سبقت التصعيد الإسرائيلي على غزة ليل أمس، افترضت أن العملية البرية لا تبدو ميسرة، وعلى ما بيّن استطلاع للرأي أجرته صحيفة معاريف الإسرائيلية، فإن نسبة الإسرائيليين المؤيدين لشن هجوم بري على غزة تراجعت من 65 في المئة قبل عشرة أيام الى 49 في المئة يوم أمس. وعلى ما ذكرت شبكة «سي أن أن» الأميركية، فإن المسؤولين الأميركيين نصحوا الجيش الإسرائيلي بإلغاء فكرة الإجتياح، خوفاً من تعريض الرهائن والمدنيين للخطر، وزيادة تأجيج التوترات في المنطقة، فيما لفت ما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز» في الساعات الماضية نقلاً عن سبعة ضباط كبار وثلاثة مسؤولين، بأن القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين لم يقرروا بعد كيف ومتى أو ما إذا كانوا سينفذون عملية برية في قطاع غزة. وقالت إن القادة الإسرائيليين، الذين تعهدوا بالإنتقام من «حماس» لم يتفقوا بعد على كيفية القيام بذلك».
عشرون يوماً دموية
ويأتي هذا التطور بعد اكثر من عشرين يوما من التصعيد بوتيرة عالية من القصف الجوّي والصّاروخي المجنون المغطّى بأوسع دعم غربي معزّز بمقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وبأساطيل في البحر، وبشحنات هائلة من السلاح والذخائر لتمكينها من الصعود الى السقف العالي الذي رفعته في بداية الحرب بسحق حركة «حماس». وأمّا النتيجة فأحياء تباد، ومستشفيات ومراكز صحية تسوّى بالأرض، وآلاف البيوت وعشرات دور العبادة الإسلامية والمسيحية ركام يتكوّم فوق ركام، والأرواح المدنيّة تُزهق بالمئات والجرحى بالآلاف ومشرّدون بمئات الآلاف من دون حد أدنى من مقومات الحياة والخدمات الأساسية. وتقارير الأمم المتحدة والأونروا باتت تركز على فاجعة حلّت بغزة، ووفق ما قال المفوض العام لـ»الأونروا» فيليب لازاريني «لا يموت الناس في غزة من القصف فحسب، بل سيموت العديد من الأشخاص قريباً أيضاً جراء تداعيات الحصار المفروض على القطاع».
وعلى ما تلحظ التقارير الأمنية، فإن التصعيد العنيف والتدمير الممنهج لقطاع غزة، لم يقرّب اسرائيل، من تحقيق هدفها، والمستوى الحاكم فيها، يغطي ذلك بمقولة انّ الحرب طويلة، والمتحدث العسكري بإسم الجيش الإسرائيلي يتوعّد بأنّ الآتي أعظم وتصفية «حماس» نتيجة حتمية للعملية البرية، إلّا انّ من يتابع الإعلام الإسرائيلي يقف على تشكيك المحللين السياسيّين والعسكريين بجدوى الحرب البرية على غزة، وإستطلاعات تبيّن تراجع نسبة المؤيدين لهذه الحرب داخل المجتمع، وعلى تساؤلات كثيرة يطرحونها حول أفق هذه الحرب، عن المدى المحدد لهذه الحرب، وما اذا كان هدفها المعلن قابلاً للتحقيق فعلاً، خصوصاً أنّ القصف العنيف استطاع أن يدمّر البنى التحتية في غزة ويجعل جزءاً كبيراً منها غير صالح للسكن والحياة فيه، لكنّه لم يرجِع الأسرى الإسرائيليين، والجيش الإسرائيلي أعلن بالأمس انّ عددهم هو 224 أسيراً، كما انّه لم يلحق الضرر الكبير بـ«حماس» ولم يضعف قدرتها على المواجهة، ولم يعطل منصّات الصواريخ التي ما زالت تطلق بوتيرة عنيفة ومتصاعدة على المدن والبلدات الإسرائيلية.
رصد وتحذير
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ هذه الحرب مستمرّة بوتيرتها ما فوق العنيفة على قطاع غزة، والمستويات السياسية والعسكرية الاسرائيلية ما زالت تتحدّث عن حرب طويلة، وبالتالي لا يمكن التكهن بنهاية وشيكة لها، وخصوصا ان اسرائيل لم تتمكن حتى الآن من تحقيق ما تعتبره انجازا في الميدان العسكري بحجم عملية «حماس» في مستوطنات غلاف غزة في السابع من الشهر الجاري. وهو الامر الذي من شأنه ان يبقي باب الاحتمالات مشرّعاً على مصراعيه في ظل اعلان الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني عن مفاجآت ليس في امكان أحد ان يتصورها.
واذا كانت الدول الداعمة لاسرائيل في حربها تترك لها حرية أن تقوم بكلّ ما يمكنها من تحقيق انجاز سريع ضد «حماس»، دون ان تعترضها اية معوّقات تؤخرها او ارباكات تشغلها او تصعّب عليها تحقيق هذا الهدف، على شاكلة فتح جبهة حرب ثانية، إلّا انّ مخاوف تلك الدول تبدو متزايدة في المقلب الآخر، وهذا ما يفسر التحذير الغربي والاميركي تحديدا لايران و«محور الممانعة»، والضغط المتزايد في اتجاه لبنان، ووفق معلومات «الجمهورية» فإنّ ما نقله الموفدون الغربيّون اكد بوضوح انّ تلك الدول ومن ضمنها واشنطن لا ترغب في فتح جبهات جديدة، الا انها لم تخرج من حساباتها إمكان مبادرة «حزب الله» الى توسيع دائرة الحرب واشعال ما تسمى الجبهة الشمالية لاسرائيل، ومن هنا جاء تأكيد الموفدين على المسؤولين اللبنانيين تجنيب لبنان ما سمّوها حرباً مدمّرة ومخيفة، وتحذيراتهم المباشرة الى الحزب من مغامرة السقوط في خطأ الانخراط في هذه الحرب».
وضمن هذا السياق يندرج اتصال وزير الخارجية البريطانية جيمس كليفرلي امس برئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، الذي اعلن مكتبه انه اجدد خلال الاتصال بالوزير البريطاني مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على اسرائيل لوقف عدوانها والتوصل الى وقف لاطلاق النار في غزة».
توتير وتهويل
وتزامناً، فإن المشهد اللبناني بصورة عامة، ثابت منذ بداية الحرب على غزة، في نقطة الرصد لمجرياتها، تتجاذبه مخاوف كبرى من أن تتمدّد هذه الحرب الى لبنان. وخصوصا مع تصاعد التوتر والتراشق الصاروخي والمدفعي على الحدود الجنوبية، والتهويل الاسرائيلي بحرب غير مسبوقة في قساوتها على لبنان، في مقابل تكثيف «حزب الله» لعملياته العسكرية ضد مواقع جيش العدو، وتأكيده على لسان نائب امينه العام الشيخ نعيم قاسم امس، بان الاميركي والاسرائيلي لا يعلمان ما تخبئه الايام المقبلة».
وكان يوم امس، قد شهد توترا ملحوظا على امتداد الحدود ترافق مع سلسلة عمليات نفذها «حزب الله» ضد عدد من المواقع العسكرية الاسرائيلية، حيث اعلن الحزب عن استهداف موقع الصدح وتدمير اجزاء كبيرة من منشآته وايقاع اصابات بين افراد حاميته، وكذلك مهاجمة موقع مسكفعام بالصواريخ وتدمير قسم من تجهيزاته، ومهاجمة موقع «ابو دجاج» بالاسلحة المناسبة وتدمير جزء من تجهيزاته الفنية والتقنية. وايضا مهاجمة مواقع رويسات العلم، السماقة وزبدين في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بالصواريخ الموجهة. فيما اعلن الجيش الاسرائيلي عن الرد على مصادر النار من الجانب اللبناني، وقال المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي افيخاي أدرعي عبر منصة «X» انه تمّ رصد إطلاق عدة قذائف صاروخية من داخل لبنان نحو إسرائيل لكنها سقطت داخل سوريا. وكشفت الإذاعة الاسرائيلية عن إطلاق وابل من الصواريخ من لبنان تجاه هضبة الجولان .فيما واصل العدو الاسرائيلي قصفه لمحيط عدد من البلدات الجنوبية وخصوصا خراج اللبونة واطراف العديسة وعلما الشعب والضهيرة ومنطقة «كروم الشرقي» شرقي ميس الجبل. كما استهدف العدو موكبا للجيش اللبناني على طريق عيترون من دون ان يؤدي ذلك الى وقوع إصابات.
مخاوف .. وموانع
على ان المخاوف الداخلية، ترافقت مع نزوح كثيف للمواطنين اللبنانيين من منطقة الجنوب الى مناطق لبنانية اخرى يعتبرونها اكثر امانا، وبعض القرى الجنوبية باتت شبه خالية من سكانها، وذلك خشية من تدهور الاوضاع، فالناس معذورة ربطا بالعديد من التجارب السابقة التي مرت بها. وفي موازاة هذه المخاوف تتبدّى حالة رافضة للدخول في حرب، ليست محصورة بفئة معينة من اللبنانيين، بل هي شاملة غالبيّة الشّعب اللبناني بكلّ فئاته.
تلك المخاوف يضاف اليها الرفض للحرب، تجمع المقاربات والقراءات السياسية والامنية على اعتبارها مبررة تبعا للتجارب الحربية السابقة ونتائجها المدمرة. الا ان اللافت للانتباه في هذا السياق ان القراءات التي غلّبت في بداية الحرب الاسرائيلية على غزة، احتمال اشتعال جبهة الجنوب اللبناني، فرضت عليها الوقائع العسكرية التي شهدتها جبهة الحدود من مزارع شبعا الى رأس الناقورة، التدرّج العكسي في موقفها بحيث باتت تنظر الى اشتعال هذه الجبهة كاحتمال ضعيف. مستندة بذلك الى مجموعة اسباب:
أولا، إعلان اسرائيل منذ بداية الحرب، وعلى لسان مستوياتها السياسية والعسكرية انها لا تريد مواجهة مع لبنان. وينبغي هنا لحظ ان اسرائيل بادرت في إجراء احترازي الى اخلاء مستوطناتها على الحدود، تجنّبا لوقوع اصابات بينهم تضطرها الى الرد على مناطق آهلة بالسكان في الجانب اللبناني، ما يدفع «حزب الله الى الرد. وتطوّر الامور
ثانيا، الاندفاعة الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية لمنع اشتعال جبهة الجنوب. ويبرز هنا ما كشفته وكالة «تسنيم» الايرانية في الساعات الماضية من ان جهات في محور المقاومة تسلمت رسالة اميركية تؤكّد ان لا نية لواشنطن بفتح جبهات جديدة.
ثالثا، موقف الدولة اللبنانية ومستوياتها السياسية التي اكدت الالتزام بالقرار 1701، وضرورة الحفاظ على الاستقرار على الحدود. وان خطر اندلاع الحرب هصدره اسرائيل وليس لبنان.
رابعا، لا اجماع لبنانيا على الحرب، والمنطق الغالب هو ان لبنان في وضع كارثي على كل المستويات، ولا يحتمل اي ضرر اضافي ولا قدرة له على مجاراة اي حرب او دفع اي ثمن فيها حتى ولو كان متواضعا.
خامسا، إنّ «حزب الله» دخل في الحرب من دون ان يدخلها، بحيث انه وازن بين ما يسميه واجبه بنصرة المقاومة الفلسطينية في غزة، وبين قراره غير المعلن بعدم توتير الداخل اللبناني وعدم التسبب بأيّ ضرر فيه، حيث انّه منذ بداية الحرب الاسرائيلية على غزة، رسّم حدود مواجهته مع اسرائيل بعمليات مدروسة ضمن قواعد الاشتباك المعمول بها من دون توسيع نطاقها. بدليل انّه يقوم بعمليّاته من ضمن ما تسمّى المناطق المفتوحة، واستهداف المواقع العسكرية، وهو امر كلّفه سقوط العديد الكبير من الشهداء، متجنبا بذلك عدم تعرض المدنيين للقصف الاسرائيلي. اذ كان في مقدوره أن يطلق صواريخه ويقوم بعملياته من داخل القرى او من بعد قريب منها، ويحتمي بالابنية ما يجنبه سقوط الشهداء في صفوفه، الا ان ذلك سيدفع العدو الاسرائيلي الى استهداف المناطق المأهولة بالقصف ما سيؤدي الى سقوط مدنيين، وهو الامر الذي يستلزم ردا من قبل الحزب، بحجم القصف الاسرائيلي، ليس على المستعمرات القريبة من الحدود التي اخلتها اسرائيل، بل على المستعمرات في العمق الاسرائيلي، الامر الذي سيفتح سجالا ناريا قابلاً لأن يتطور الى حرب اوسع بين الجانبين.
نوبة الحراك
من جهة ثانية، بقي الداخل اللبناني في حال جمود سياسي غير محدد بسقف زمني، فيما بدا ان نوبة الحراك التي ضربت الواقع السياسي في الأيام الاخيرة، قد عبرت الاجواء الداخلية دون ان تترك اي اثر، وعادت بعدهالا كل الاطراف الى التموضع في دائرة الخلاف حول كل الاولويات والملفات الداخلية، من دون ان تتمكن من توجيه البوصلة الداخلي نحو حلحلة الضروري والملح من تلك الملفات، وخصوصا في ما يتعلق بالملف الرئاسي الذي مازال مربوطا بالعقد ذاتها التي تحول دون انتخاب رئيس للجمهورية، وكذلك في ما يتعلق بتأخير تسريح قائد الجيش العماد جوزف عون وتعيين رئيس للاركان. حيث بينت مقاربة هذه المسألة في الفترة الاخيرة أنها باتت شديدة التعقيد. وهو الامر الذي يتطلب، في رأي مصادر مطلعة على خفايا هذه الازمة، المزيد من المشاورات العقيمة في اتجاه صياغة واحد من مخرجين: تعيين قائد جديد للجيش في مجلس الوزراء وكذلك تعيين رئيس للاركان، او تأخير تسريح قائد الجيش بناء على اقتراح قانون يقره مجلس النواب