سامر عبدالله خاص ليبانون تايمز
طرح السؤال في الأوساط الدولية حول أبعاد التحرك الذي قاده رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين بعد أن توجه بقواته إلى مدينة روستوف وسيطر عليها ومن ثم تقدم باتجاه موسكو قبل أن تحصل تسوية قادها رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو بموجبها تعود قوات فاغنر إلى مواقعها ويغادر بريغوجين إلى بيلاروسيا.
فهل كان قائد مجموعة فاغنر ينتظر دعما من قادة عسكريين روس يستطيع بموجبه إستكمال تحركه ليغير القيادة السياسية الروسية ويستولي على الحكم مستغلا وجود الجيش الروسي على الجبهات؟
أم أن القيادة العليا في روسيا قد كشفت تنسيقا لبريغوجين مع الغرب فجرى ضرب مواقعه واضطر لترك الثكنات والتوجه نحو المدن لإدارة حرب عصابات حتى لا يمكن إبادته بالطيران الحربي؟
وهل الأمر مجرد مراهقة ومغامرة من مغامرات بريغوجين صاحب الشخصية الموتورة والمتقلبة الذي راح يتطاول على القيادة العسكرية العليا مرارا وتكرارا وصولا إلى مطالبته برئيس جديد لروسيا؟
يصح القول أن القيادة السياسية في روسيا قد تعاملت بحكمة مع الإنقلاب الذي قاده بريغوجين، فلم تنزلق إلى مواجهة عسكرية في الداخل الروسي كانت نتيجتها محسومة لصالح الدولة التي تستطيع القضاء على كل مجموعة فاغنر عبر الحرس الوطني، ولكنها اختارت ترك حراك فاغنر ينفلش لينطفئ كليا مع عدم وجود أي تأييد له من الدولة العميقة في روسيا. وبهذا حافظت السلطة الروسية على هيبة الدولة ولم تنجر نحو صراح جانبي تكون آثاره المعنوية وليس العسكرية خطيرة جدا في الوقت الذي تخوض فيه روسيا حربا ضد حلف الناتو الذي يستعير أوكرانيا في هذا الصراع.
لا يخفى أن هناك شكوكا كبيرة حول سلوك بريغوجين، فهو كان يطلب ذخائر وأسلحة تفوق حاجة فاغنر ، ولم تكن وزارة الدفاع تلبي كل طلباته بسبب هذه الشكوك، سيما أنه لا يرتبط تنظيميا بقيادة الجيش الروسي ، ويقال أن رئيس الأركان الحالي متحفظ جدا تجاه مجموعة فاغنر ولا يريد الإعتماد سوى على القدرات الذاتية المستمدة من هيكيلة الجيش الرسمية .
وبالنسبة لوزير الدفاع الذي يدعمه الرئيس بوتين ، والذي يعتبر من المرشحين لخلافته يوما ، فهو يحظى بدعم من الجيش ولا سيما رئيس الأركان الذي يحترم بشدة التسلسل الهرمي العسكري ، وكان التوجه في وزارة الدفاع هو لوقف الإعتماد على فاغنر وعدم تجديد التعاقد معها ، وإن كانت الأخيرة قد حققت بعض النتائج العسكرية ، غير أن القيادة العسكرية تعتبر أن بريغوجين يبالغ في عرض إنجازاته ، وأن التوجه هو لترشيق الجيش الروسي بناء على تجارب الحرب مع أوكرانيا ليصبح جيشا ذكيا ، وأيضا فإن التوجه هو لتأمين صعود تدريجي للضباط الذي أثبتوا كفاءتهم ، إضافة إلى دمج مجموعة فاغنر بالجيش مع عدم الرغبة بتركها جهازا قائما بذاته .
لقد كان بوتين ذكيا في عدم الإصطدام عسكريا ببريغوجين ، وهو أحدث إنشقاقا داخل مجموعة فاغنر عند إعلانه حماية من لا يشارك من أعضائها بالتمرد ، ومن ثم ترك بريغوجين يقبل الوساطة وينكفئ كليا من الساحة الداخلية .
حاول البعض اعتبار تمرد بريغوجين عملية منسقة مع الدولة الروسية للضغط على بعض القيادات في الجيش كي تنكفئ ، غير أن هذا الأمر غير منطقي فلا يمكن لدولة بحجم روسيا التي تملك أحد أقوى جهاز مخابرات في العالم أن تترك ساحتها الداخلية عرضة للتوتر في أوج الصراع مع الغرب . كما أن قيام وزير الدفاع الروسي اليوم بتفقد وحداته على الجبهات الأمامية يعتبر بمثابة إشارة إلى عدم تخليه عن منصبه وعن عدم رغبة بوتين بإقالته .
حاول الغرب استغلال حراك بريغوجين ، في محاولة جديدة لتدمير صورة روسيا وتصويرها كدولة هشة ومضطربة وضعيفة بينما هي تخوض حربا مع الجيش الأوكراني الذي حاز على أهم الأسلحة الغربية الحديثة وعلى كل ترسانات دول المنظومة الإشتراكية السابقة التي انضمت إلى الغرب إضافة إلى تمويل مالي هائل لا مثيل له في التاريخ الحديث .
بالعودة إلى خطاب بوتين الذي وصف التمرد بالخيانة ، فهذا الوصف هو الأصح وقد تثبت الأيام أن بريغوجين هو تابع للغرب تماما كما كان رئيس البرلمان الفنزويلي السابق خوان غوايدو الذي أعلن نفسه رئيسا في انقلاب أبيض لقي دعما من الدول الأطلسية في تحد للرئيس الفنزويلي مادورو . ولقد تعامل حينها مادورو ، والذي تدعمه روسيا ، مع انقلاب غوايدو بهدوء وصبر إلى أن فشل انقلابه .
وتماما فعل بوتين حيث تعامل بهدوء مع تمرد بريغوجين الخطير والذي لم يجد أي صدى له في أوساط الجيش ، مما أضعف التمرد وجعل زعيم فاغنر يستسلم ويغادر ، ولم يتحقق حلمه بتوريط الجيش الروسي في حرب أهلية تؤدي اهتزاز خطير في السلطة السياسية وتجعل أوكرانيا ومعها الغرب في موقع المتفوق عسكريا وسياسيا .