بقلم: عضو هيئة الرئاسة لحركة أمل د. خليل حمدان – صحيفة النهار
في زيارتها الأخيرة لدولة الرئيس الأخ نبيه بري قدمت ابنة الإمام المغيب القائد السيّد موسى الصدر السيدة حوراء الصدر مع العائلة نتاجاً هاماً ومميزاً صادراً عن مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، وبعشر لغات حيًه كترجمة لعظة الصوم التي القاها الإمام الصدر في كنيسة الكبوشيين شهر شباط 1975.
وهذا الإصدار يشير لإهتمام عائلة الامام. الصدر ومركز الدراسات للأبحاث بهذه المناسبة لشدة تسليط الضوء عليها في أكثر من عنوان، وبالرغم من الإصدارات الهامة للمركز في لبنان وفي ايران، فإن اعتبار هذه الخطبة علامة فارقة في توجهات وتطلعات الإمام الصدر من أجل الإنسان، وهي رسال برسم الطامحين لصيانة الوطن والمواطن. كل ذلك دفعني لقراءة نص الخطبة مرات عديدة، وفي كل مرة اكتشف شيئاً جديداً يوحي بأنها خريطة طريق لبلد يتهدده العدوان الصهيوني والحرمان الممتد منذ أمد.
وكان اللقاء: اجتمعنا من اجل الانسان. والامام لا يزال حاضراً.
قد يعتري المرء شحٌّ في محاولة الحديث عن الامام المغيب السيد موسى الصدر الذي ملأ الارض حضوراً، طالما شرّع صفحات عطائه على درب الأنبياء في اداء يتسم بمواصلة جهوده المضنية لبلسمة جراحنا الراعفة بفعل العدوان الصهيوني المتمادي بالقصف والاغتيال والاجتياحات المتواليه، المعززه بالتآمر الدولي والاهمال العربي والتجاهل الرسمي للحكام في لبنان لمجريات الاحداث التي جاءت مقارباتهم لمواجهة هذه الانتهاكات وكأنها خارج مدى صيانة الوطن والمواطن والدفاع عنه، وما مقولة: ان قوة لبنان في ضعفه، الا محاولة لتوهين صمود الناس، وكأن قدر الجنوبيين ان يعانقوا جرحهم وعلم بلادهم دون انتظار مدد الحماية والرعاية، بالرغم من تمدد العدوان الى البقاع وحتى مطار بيروت عام 1968 الذي لم تشفع له سياسة اللامبالاة من عدوانية اسرائيل لتدمر اسطولاً من الطائرات لتصبح أثراً بعد عين، وحتى يكتمل مسلسل العدوان، كان هناك عدوان اخر من الداخل الرسمي باتجاه احزمة البؤس ومواقع التحدي مع العدو الصهيوني. هذا العدوان تمثل بالحرمان وكأن المناطق المحرومة من الجنوب الى عكار الى الهرمل ومن بعلبك الى احزمة البؤس في العاصمة تواجه عدواناً اخر، فهم انفسهم الذين برروا عدم قدرتهم على الحماية اكملوا خطتهم بمقولات عدم قدرة هذه السلطة الفاشلة على رعاية الناس وتأمين الحد الادنى لمقومات الصمود التي يمكن ان تتحقق بتنمية المناطق المحرومة. وسط هذه المآسي والتحديات جاء الامام السيد موسى الصدر يحمل رؤية وطنية متحدثاً عن ثنائية تستهدف لبنان وانسانه، هذه الثنائية تتمثل بالعدوان الصهيوني والحرمان المتمادي الذي يسهم بتجاهل معاناة اللبنانيين والمستهدفين على حدود الوطن وفي داخله.
ان هذه الرؤية الوطنية الشاملة المستندة الى دراسة عميقة للواقع اللبناني كانت الدافع ليتابع الامام الصدر مع المحرومين والمعذبين على الحدود الى عمق الوطن، وما حضوره في كفرشوبا يوم دمر العدو الصهيوني مسجدها وعدداً من منازلها، اذ بخل المسؤولون بزيارة تفقدية لها، ترك الامام الصدر حينها مقابلته الصحفية في المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى وتوجه الى ساحة البلدة متفقداً اهلها، متألماً من مشاهد الركام والدمار، والحديث كان حديث الصمود وادانة الموقف الرسمي. والحديث يطول عن حضوره في الطيبة يوم استشهاد فلاح شرف الدين ووالده وشقيقه والاستاذ محمود قعيق، ولكن الاسهاب في الحديث عن حضور الامام الى مواقع الصمود يطول فكان حاضراً دائماً بأشد ما يكون عليه الحضور.
ان تجاهل الدولة لدعم صمود الناس وبلسمة جراحهم انذاك عزز رؤية الامام الصدر بضرورة تفعيل لغة الحوار التي ينبغي ان تعزز الوحدة الوطنية في اختراق كل موانع التواصل بين جميع الطوائف والمذاهب، محاضراً في الكنائس والمساجد، ومحاوراً الطلاب على مدارج الجامعات، ومؤسساً لهيئة نصرة الجنوب التي ضمت كبار رجالات الدين من مختلف الانتماءات الطائفية والمذهبية لتعزيز الوحدة الوطنية لمواجهة العدوان والحرمان على حد سواء، معتبراً ان الوحدة الوطنية واختراق تحصينات الطائفيين اساس في الاستقواء على اعداء الداخل والخارج، على قاعدة طالما عمل الامام المغيب السيد موسى الصدر على تأكيدها: ان الطوائف في لبنان نعمة والطائفية نقمة. ولقناعاته ان الصراع عامل جامع بين اطراف لا يجمعهم شيء اخر، وكان خيار الامام الخيار المتناقض مع اصحاب مشاريع تعزيز الصراع البيني الى اضفاء اجواء الدفاع واللقاء بين اللبنانيين من مختلف الطوائف والمذاهب. وهذا ما عبر عنه العديد من المتابعين والنقاد والسياسيين الذين ادهشهم الامام بحضوره الى الكنائس والمساجد، اذ عبّروا انه الرجل الذي يحمل القضية ويتكئ على التاريخ بافكاره، يقرب المسافات ويستحضر اولوية الدفاع عن الوطن وانسانه. كما كانت محاضرته في كنيسه الكبوشيين: من اجل الانسان. ان تفاعل الامام الصدر المجتمعي جاء بنتائج طالما شكلت محوراً جديداً في السياسة اللبنانية، عنوانه: لبنان كما يفهمه الامام موسى الصدر. هذا المحور طالما لاقى رواجاً ونجاحاً، ورسخ القناعة عند الكثيرين من اجل غد واعد، وهذا ما قاله الرئيس شارل الحلو: “لقد حصل ذلك للمرة الاولى في تاريخ الكثلكة، يجتمع في الكنيسة مؤمنون لسماع كلمة الله من مرجع غير كاثوليكي، ويقابل بالاعجاب. يومها كانت علامات الفرح ممزوجة بعلامات الدهشة ترتسم على وجوه الحاضرين”.
هكذا اراد الامام الصدر المثال في الحوار ودعوات اللقاء من اجل لبنان وانسانه، ذلك لبنان الذي اراده، هذا الرمز للانسان الذي يشعر فيه كل انسان بأنه وطن له، على عكس المحرضين الطائفيين المرتهنين لسياسات عنصرية تضر بتبعيتها العدو الصهيوني وكل اعداء لبنان.
نعم، فقط كان هناك صدى لكسر الحاجز الطائفي لمصلحة تعزيز الوحدة الوطنية واعطاء اولوية لانماء كل المناطق اللبنانية من اجل الانسان. مشدداً ان الصراع مع العدو الصهيوني مهمة وطنية بامتياز، مهمة كل الطوائف والمذاهب والمسؤولين، حتى وان تذرعت السلطة انذاك بضرورات ترغمها على عدم اخذ الموقف المناسب. وان حراك الامام الصدر وصل اذان الرسميين وغير الرسميين، ويكفي، في مقالة متواضعة كمثل هذه، ان نورد ما قاله له الراحل الاستاذ غسان تويني بعد سماعه المحاضرة الوطنية (من اجل الانسان) في كنيسة الكبوشيين حيث قال: “لو كنا نؤرخ لسمّرنا عظة الامام الصدر في كنيسة الكبوشيين وعلى ابواب منازلنا”.
وعن تأثير الامام الصدر على معظم اللبنانيين يقول، ايضاً الراحل غسان تويني: كنا مجموعة ملتفة حول سماحة الامام قبل اجتياح 1978 نبحث في كيفية تحويل الجنوب الى مجتمع مقاوم، وقد استضافنا مؤسس الندوة اللبنانية ميشال اسمر، ان الامام الصدر في رؤيته وحضوره، تجاوز حضوره الوطنية، واستفاد من مخزونه العلمي والثقافي ليكون الرجل الذي قاد حركة المحرومين من لبنان الى كل العالم بشهادة كبار من عاش معهم وحاورهم، كالمطران جورج خضر المشهود له بسعة اطلاع وعمق ودقة وغزارة كتاباته كما يقول عن الامام الصدر الرجل العالمي فيقول “عالميته ناتجة عن تنوع مصادره، ولولا هذا البعد العالمي والتحسس الانتمائي لإستحال عليه ان يجذب الى طروحاته المسيحيين الصامدين في مسيحيتهم.
ان الامام السيد موسى الصدر عصي على الاختزال كونه الحاضر دائماً في ميادين العطاء والجهاد في كل ساح، كما يعبر سماحته: اينما تكون القضية قضية حق نحن نكون. ولذلك هي محاولة بالإشارة بها الى النذر اليسر من عطائه الذي لا ينضب واخذت من مائه النثر قطرات ومن درره نثرات ايسرها تصلح لأن تكون خارطة الطريق لتجمعنا الوحدة الوطنية، على قاعدة رفض الطائفية والطائفيين والمذهبية والمذهبيين الذين يقتاتون على دماء المواطنين لبناء سور يضمن زعاماتهم على وقع التعصب المذهبي والطائفي. وايضاً ان الامام الصدر كان يراهن على الانسان وفطرته الطاهرة التي تشكل قابلية التلقي والتفاعل لبناء مجتمع الصمود والمقاومة، ولم يراهن على النخبة ويلاحظ بإهمال عامة الناس، ولا الرهان على عامة الناس بتهميش النخب، انما اراد تفعيل حراك المجتمع بالاستفادة من جميع الطاقات والتجارب التي تغني المجتمع في صناعة الغد الواعد.
والامام الصدر راهن على المقاومة وتحصين المجتمع المقاوم بتأمين مقومات الصمود واستمرار تقدم المجتمع في ظل ظروف صعبة.
اخيراً، ان الامام السيد موسى الصدر شكل ظاهرة في العصر الحديث، الرجل الأمة جاء لينفض عنّا غبار السنين، بذر كل لحظة في مسيرته من اجل الانسان.
لأن الامام الصدر صانع نهضتنا، وأمل المعذبين، وصرخة في وجه الطغاة، ولأنه شكل رافعة لثورة المحرومين في لبنان وايران والمنطقة العربية والعالم الإسلامي، ولأنه اطلق اول مقاومة في تاريخنا الحديث قبل إحتلال ارضنا، ولأنه دعا للقاء حركات التحرر في العالم اخفوه على يد المجرم المقبور معمر القذافي، ولكنه بقي عصي على الغياب، حاضراً فينا وننتظره بيننا قريباً ليقودنا من من نصر الى نصر.
نجدد العهد والوعد لهذا الامام القائد العائد بإذن الله، والقذافي المجرم مسؤول عن الاخفاء، والحكومة الليبية وادارتها مسؤولة عن تحرير الامام واخويه سماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين وامل بنصر الله.