حسن حيدر
شكّلت الأوضاع المعيشية والصحية والاقتصادية الصعبة في لبنان، خلال السنوات الماضية، سببًا رئيسيًا في ارتفاع معدّلات الجرائم، ومن أبرزها جرائم العنف ضدّ النساء والفتيات. وفي حين أنّ هذه الجرائم ليست قضية خاصة، بل قضية مجتمعية ووطنية، يصبح التصدّي لها مسؤولية جماعية أيضًا، وبالتالي لا بدّ من رفع الصوت ونشر الوعي والإضاءة على سبل التبليغ ومساندة الناجيات.
دراسة لمؤسسة “الفرح” الاجتماعية
في هذا الإطار، أجرت مؤسسة “الفرح” الاجتماعية دراسة حول “العنف القائم على النوع الاجتماعي خلال الأزمات” في مناطق عاليه والشوف وطرابلس، حيث استندت على بيانات تمّ جمعها من خلال 9 مجموعات نقاش مركّزة مع 108 نساء، من بينهن ناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، بالإضافة إلى مسح ميدانيّ استند على إجابات ومواقف 289 إمرأة من المناطق المذكورة.
وحول الأسباب التي دفعت المؤسسة لإجراء هذا الدراسة، تشير مديرة المؤسسة فريال المغربي إلى أنّ “مؤسسة الفرح الاجتماعية تنشط في 5 قطاعات ومنها المساعدات الإنسانية، وقد لاحظنا في العامين الماضين من خلال قيامنا بتقييم الحاجات، تزايدًا في نسب العنف ضدّ النساء، ولذا قرّرنا القيام بالدراسة للبحث عن الأسباب من جهة، والاطلاع على واقع النساء من جهة أخرى”.
وتوضح مغربي أنّ “من أهداف المشروع، الذي موّلته وزارة الخارجية الأميركية عبر سفارتها في بيروت، البحث عن مدى إدراك ومستوى فهم النساء اللبنانيات لقضايا العنف، بالإضافة إلى مقارنة وتيرة وأنواع العنف قبل جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية وخلالها وبعدها، وتوضيح العوائق التي تواجهها النساء والتي تمنعهنّ من وضع حدّ للعنف والتبليغ عنه”.
شهادة ناجية
“انقبري اتحمّلي”. بهذه العبارة تلخّص سعاد (إسم مستعار) التي تقطن في إحدى ضواحي العاصمة وهي أم لطفل واحد، معاناتها، وتشير إلى أنه “مع تردّي الأوضاع الاقتصادية في لبنان، أواخر عام 2019، خسر زوجي عمله، ومنذ ذلك اليوم وأنا أتعرّض لإساءات لفظية بشكل شبه يومي وكأنني السبب في تركه لعمله. وبالرغم من الحالة النفسية التي عانيت منها، كنت مستعدّة للتحمّل، ولكن، قبل ستة أشهر، تفاقمت الأمور وصولًا إلى الاعتداء الجسدي عند أبسط خلاف بيننا”.
وتلفت سعاد، التي تقرّ أنها لم تكن على علم بسبل التبيلغ أو التواصل مع الجهات المعنية، إلى أنّ الملجأ الوحيد بالنسبة لها كان منزل عائلتها، حيث طلبت الطلاق من زوجها، لتواجه، بعد مدّة قصيرة، عنفًا من نوع آخر من قبل شقيقها الأصغر.
وتضيف بحسرة: “رحت من تحت الدلفة لتحت المزراب”، فالحال في منزل والدها لم يكن أقل سوءًا من منزلها الزوجي، حيث تعرّضت أيضًا للإساءات والتهديد في حال قرّرت اللجوء إلى أيٍّ من الجمعيّات المختصّة تحت ذريعة “بدّك تجَرْصينا”، ليتدخّل في ما بعد والد زوجها ويضع حدًّا للخلاف، مع التعهّد من قبل زوجها، بعدم التعرّض لها.
وتعتبر سعاد، التي تعيش حالة من الترقب، أنّ شيئًا ما انكسر في علاقتها مع زوجها، ولا ضمانة تردعه من تكرار عنفه، خصوصًا أنّ “حالتنا المعيشية إلى مزيد من التدهور”. وتؤكّد أنّ “خيار اللجوء إلى إحدى المنظمات الأهليّة بات مطروحًا بالنسبة لي، ولن أسكت بعد اليوم مهما كانت التداعيات”، مؤكّدةً أنها “حصلت من جارتها على رقم الخط الآمن لمنظمة “أبعاد” ولن أتردّد في التواصل معهم عند الحاجة، خصوصًا أنّ لديهم مركز إيواء قد ألجأ له في يوم من الأيام”.
حملات التوعية وسبل التبليغ
رغم كثرة الجمعيّات التي تعنى بدعم النساء، إلّا أنه حتى اليوم، لا يزال هناك ضعف في الوعي المجتمعي حول العنف ضدّ النساء، بالإضافة إلى الضعف في المعرفة بكيفية التواصل مع الجهات المعنيّة بمتابعة حالات العنف، وبشكل أساسيّ القوى الأمنية والمنظمات غير الحكومية.
وبالاستناد إلى الدراسة، تبيّن أنّ ما يقارب من نصف المستطلَعات (53% في طرابلس و40% في الشّوف و36% في عاليه) ليس لديهنّ معرفة حول سبل التبليغ والتواصل مع الجهات المسؤولة عن التعامل مع حالات العنف ضدّ النساء.
كما أظهرت الدراسة أنّ “أكثر من نصف المستطلَعات يمتلكّن نقصًا في المعرفة وحاجة لتوعية مجتمعاتهن حول قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي (الشوف 71%، عاليه 53%، طرابلس 56%). وأشارت النساء في المناطق الثلاث إلى أنّ مرتكبي العنف الأساسيين هم الأخوة ثمّ الشريك وأفراد عائلته ثمّ الأهل، فيما أجمع أكثر من نصف المشاركات في الدراسة على أنّ العنف ضدّ النساء قد ازداد خلال جائحة كورونا (70% في الشّوف و59% في عاليه و51% في طرابلس).
وبالعودة إلى الدراسة التي أجرتها مؤسسة “الفرح” الاجتماعية، تبيّن أنّ عددًا كبيرًا من النساء لا يعرف ما هي أنواع العنف ولا أسبابه ولا كيفية التبليغ. وهنا تبرز أهمية القيام بحملات توعية لمساعدة النساء والوقوف إلى جانبهن. وفي هذا الإطار، أطلقت المؤسسة المرحلة الثانية من برنامجها، وهي حملة التوعية حول التبليغ بعنوان “التبليغ مسؤوليتنا”، وانقسمت إلى قسمين: قسم عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والقسم الثاني عبر توزيع منشورات ضمن الحصص الغذائية التي توزّعها المؤسسة، ووضعها في المراكز الصحية الأوّلية التابعة للمؤسسة، بالإضافة إلى المتاجر والصيدليات.
الخط الساخن
في 1 تشرين الأول من عام 2018، وضعت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي الخط الساخن رقم 1745 المرتبط مباشرةً بغرفة العمليات لمعالجة شكاوى العنف الأسري، ودعت المديرية مرارًا المواطنين إلى عدم التردّد في الإبلاغ عن شكاويهم، وذلك عبر الاتصال المباشر بالخط الساخن.
في هذا الإطار، يؤكّد مصدر أمني مطّلع أنّ “قسم حقوق الإنسان في قوى الأمن الداخلي يتابع قضايا العنف الأسري التي يتمّ الابلاغ عنها”، ويشير إلى أنّ “التبليغ عن الشكاوى لا يقتصر على الشخص المعني، بل يمكن لأيّ شخص شاهد حالات العنف أن يبلّغ عنها وتتولّى القوى الأمنية متابعتها”.
وبالتالي، على النساء المعنَّفات عدم التردّد باللجوء إلى الحماية التي يوفّرها لهنّ ولأطفالهنّ القانون وقوى الأمن الداخلي، من خلال الإبلاغ عن الشكاوى عبر الاتصال المباشر بالخط الساخن 1745. كما هي في الوقت نفسه دعوة للأهل والأقارب والجيران إلى الإبلاغ عن حالات العنف التي يرصدونها في محيطهم، ليساعدوا بدورهم النساء المعنّفات اللواتي لا يجرؤنَ على الإفصاح عن وَضعِهنّ خوفًا من ردود الفعل.
كما تتيح المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي للنساء والفتيات اللواتي يتعذّر عليهن إجراء مكالمات هاتفية في المنزل خوفًا من معنفيهن، إمكانية الإبلاغ عن شكاوى العنف الأسري عبر خدمة “بلّغ” على موقعها الإلكتروني www.isf.gov.lb.
حلول واقتراحات
أمام الوضع الصعب في لبنان، وفي ظل الأزمات المتعدّدة، لا يمكن الاستسلام للواقع الحالي، وبالتالي يجب العمل، بكل السبل، لتعزيز قدرات القوى الأمنية، وإخضاع المزيد من الضباط والرتباء والأفراد لدورات تدريبية على مساندة ضحايا العنف الأسري، والعمل على إنشاء مركز شرطة متخصّص لحماية النساء والأطفال وضحايا العنف الأسري ومأوى خاص لهم.
كما تقع مسؤولية كبيرة على عاتق المشرّعين في مجلس النواب، بغية العمل على تعديل بعض مواد قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري لضمان حماية أكبر للنساء، بالإضافة إلى السهر على تطبيقه بشكل كامل والذي من شأنِه أن يحدث تغييرًا في الثقافة المجتمعية ويحدّ من استضعاف النساء ومن تعرّضهنّ للعنف بمختلف أشكاله.
ختامًا، يعتبر العنف ضدّ النساء من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارًا في العالم وفي لبنان. ومع تزايد معدّلات العنف، لا بدّ من تكاتف الجميع من قوى أمنية وجمعيّات المجتمع المدني، وكذلك وسائل الإعلام، لمواجهة التحدّيات التي تحول دون الحدّ من جرائم العنف ضدّ النساء، وتزيد الوعي على المستويين الوطني والمجتمعي، لتعزيز حقوق جميع النساء.
في حال الحاجة للتواصل:
الخط الساخن لقوى الأمن الداخلي لمعالجة شكاوى العنف الأسري: 1745
الخط الآمن لمنظمة “أبعاد” 81/788178.