أكّد مرصد الأزمة أن الازمة اللبنانية تؤسس، في خضم الازمات المشتعلة وتداعياتها اليومية على كل جوانب العيش، الى عواقب طويلة الامد عبر الهجرة الكثيفة المتوقعة والتي بدأت دلالاتها بالظهور. فيشهد لبنان منذ اشهر ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الهجرة والساعيين اليها يجعلنا ندخل في بداية موجة هجرة جماعية (Exodus) هي الثالثة بعد الموجة الكبيرة الاولى في اواخر القرن التاسع عشر امتدادًا حتى فترة الحرب الكونية الاولى (١٨٦٥ – ١٩١٦) حيث يُقدر ان ٣٣٠،٠٠٠ شخصًا هاجر من جبل لبنان آنذاك، والموجة الكبيرة الثانية اثناء الحرب الاهلية اللبنانية (١٩٧٥ – ١٩٩٠) حيث يقدر الباحث بول طبر اعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالي ٩٩٠،٠٠٠ شخصًا.
وبحسب تقرير مرصد الأزمة، تحصل الهجرات الجماعية من البلدان الساقطة في ازمات اقتصادية عميقة حيث تُشكل الازمات عوامل ضاغطة على السكان للرحيل بحثًا عن امن وامان وسبل العيش. فعلى سبيل المثال وُضِعت فنزويلا حاليًا من ضمن ازمات النزوح العالمية من قبل المفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين حيث يُقدر اعداد المهاجرين القسريين من جراء الازمة الفنزويلية بحوالي ٤ ملايين نسمة نزحوا الى بلدان مجاورة من جراء التدهور الاقتصادي والمعيشي في بلدهم. كذلك الحال في زيمبابوي حيث يُقدر عدد المهاجرين منها الى جنوب أفريقيا بسبب الازمة الاقتصادية والمعيشية الضاربة منذ التسعينيات بحوالي ٣ ملايين نسمة. وشهد اليونان هجرة كبيرة من جراء ازمته الاقتصادية العميقة وصلت الى ٣٩٧،٠٠٠ نسمة في سنوات قليلة بين ٢٠١٠ ٢٠١٣.
وأشار المرصد الى أن بالنسبة للبنان، فهناك ٣ مؤشرات مقلقة فيما يتعلق بدخولنا في موجة هجرة جماعية والتي من المتوقع ان تمتد لسنوات:
اولًا: ارتفاع فرص الهجرة عند الشباب اللبناني حيث اشار ٧٧% منهم انهم يفكرون بالهجرة ويسعون اليها، وهذه النسبة هي الاعلى بين كل البلدان العربية حسب تقرير “استطلاع رأي الشباب العربي” الصادر العام الماضي. ان السعي للهجرة عند الاكثرية الساحقة من الشباب اللبناني هو نتيجة طبيعية لانحسار فرص العمل الكريم حيث يُقدر البنك الدولي ان شخصًا من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف الـ ٢٠١٩ وان ٦١% من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل ٤٣%.
ثانيًا: الهجرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين خاصة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي كأطباء وممرضين، وفي القطاع التعليمي من اساتذة جامعيين ومدرسيين بحثًا عن ظروف عمل ودخل افضل. فعلى سبيل المثال قدرت نقابة الممرضات والممرضين هجرة ١٦٠٠ ممرض وممرضة منذ ٢٠١٩. وكذلك افراد الجسم التعليمي الذي هاجر المئات منهم الى دول الخليج وشمال اميركا، ففي الجامعة الاميركية في بيروت وحدها سُجل خلال عام رحيل ١٩٠ استاذ يشكلون حوالي ١٥% من الجسم التعليمي.
ثالثًا: توقع طول امد الازمة اللبنانية، فالبنك الدولي يُقدر ان لبنان يحتاج بأحسن الاحوال الى ١٢ عامًا ليعود الى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام ٢٠١٧ وبأسوأ الاحوال الى ١٩ عامًا. ومع غياب القرار السياسي بمقاربة جدية للازمة اللبنانية مما يوشي بتعمد الانهيار، فمن غير المستبعد ان تتلاشى مؤسسات الدولة أكثر وأكثر والسقوط في دوامة مميتة تمتد لعقدين من الزمن، والذي سيشكل عاملًا ضاغطًا على مئات الالاف للرحيل عن وطنهم سعيًا للاستثمار والعمل والدراسة والتقاعد.
وقال المرصد: اذا اضفنا الى هذه المؤشرات الثلاثة “المحلية” عاملًا اخر هو الحاجة المتزايدة الى يد عاملة واصحاب اختصاص وفئات شابة في عدد كبير من الدول الاكثر تقدمًا في العالم والتي تشهد انخفاضًا في معدلات النمو السكاني وزيادة في نسبة المسنين، فيمكننا استنتاج موجة كبيرة من هجرة اللبنانيين في الاعوام القادمة.
وأشار الى أن “تأثيرات موجة الهجرة الثالثة المتوقعة ستكون وخيمة عبر خسارة يصعب تعويضها للرأسمال البشري اللبناني وهو المدماك الاساس في اعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد. لطالما شكلت نجاحات اللبنانيين في دول الاغتراب مادة في بناء سردية “اللبناني الشاطر” لكنها تُستّر الجانب المظلم من مجاعات وحروب ودمار في بلدهم الام. “