نبيل هيثم – الجمهورية
في خطاب ذكرى تغييب الامام موسى الصدر في 31 آب من السنة الماضية، دعا الرئيس نبيه بري الشركاء الى ان يكونوا كلهم مع الوطن وليس عليه، ورسم خريطة طريق للخروج من الأزمة. في ذلك الخطاب، استشرف بري عمق المأزق وحجم الكوارث المحدقة بلبنان، وحدّد مكمن ومصدر السمّ الساري في عروق البلد، وصرخ في بريّة السياسة اللبنانية، لعلّه يدفع الأفاعي إلى أن تغور في جحورها، ويستدعي من يمدّ هذا البلد بالترياق الشافي.
جاء ذاك الخطاب، ودخان نار الانفجار الزلزالي في مرفأ بيروت كان لا يزال عابقاً في الأجواء الداخلية، ولبّ ما ورد في ما قاله الرئيس بري قبل سنة من الآن، كانت مقاربته القلقة للواقع اللبناني – الذي بدأ إثر انفجار المرفأ في 4 آب يشهد تسارعاً مريعاً في تداعياته – وكان ايضاً تجاوزه ما بدت أنّها بكائيّات الوقوف على الأطلال، التي لجأ اليها كلّ تماسيح الاستثمار السياسي على الدمّ، سواء من هم في السلطة او خارجها، الذين صادروا الشهداء والضحايا ووجع المنكوبين والمتضررين، وحوّلوا الكارثة الى حلبة لتصفية الحسابات، وقدّموا نموذجاً هو الأسوأ في الخطاب السياسي والشحن الاعلامي والغرائزي والتراشق الفضائحي، الذي انحدر الى مستوى قدّم لبنان امام الداخل والخارج دولة سيئة السمعة.. هكذا باتت تنظر اليها كلّ دول العالم!
يومها قال بري، انّ «ّأخطر ما كشفته تلك الكارثة عدا عناصر الدولة الفاشلة، هو سقوط هيكل النظام السياسي والاقتصادي بالكامل. ومن هنا جاءت دعوته الى تغيير في هذا النظام الطائفي، بوصفه علّة العلل، وهو الفساد وهو الحرمان، وهو السبب والمسبّب لعدم تطبيق القوانين، ولمخالفات دستوريّة لا تُعدّ ولا تُحصى، وهو اللاعدالة، بل هو اللاانتماء للبنان الواحد الموحّد».
تلك المقاربة، اتسمت بقلق جدّي على بلد يُرقصّونه على حافة الجحيم، وبجرأة حدّدت مكمن الداء والعلاج، وجاءت كمدخل لخريطة طريق اقترحها بري لولوج كوّة الإنقاذ، لنهوض البلد من جديد وانقاذ ما يمكن انقاذه، الاساس فيها:
- الإسراع ومن دون شروط مسبقة في تشكيل حكومة قوية جامعة للكفاءات، وتمتلك برنامجاً إنقاذياً إصلاحياً محدّداً بفترة زمنية ورؤية واضحة، حول كيفية إعادة إعمار ما تهدّم من بيروت، وبالتوازي، المباشرة بالإصلاحات الضرورية على المستويات كافة، بدءاً من الكهرباء الى المالية العامة ومكافحة الهدر والفساد واستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة.
- الإصلاح الشامل للنّظام اللبناني، على النحو الذي يمكن معه «إعادة تشكيل هذا النظام على النحو الذي لا يجعل اللبنانيين مضطرين مرّة تلو الأخرى لإسالة الدماء النفيسة، على النحو الذي حدث في الكثير من المحطات المفصلية في تاريخ لبنان الحديث، ولا سيما الحرب الأهلية، التي عاد كثيرون إلى استحضار أشباحها، سواء في الداخل، حيث يحاول البعض طرح خطط مدمّرة كالفدرالية وما شابه، أو في الخارج، حيث باتت عواصم القرار تلوّح، وإن تحذيراً، باحتمالات الحرب الاهلية في حال لم يتمّ اصلاح النظام السياسي».
على هذين الاساسين، سعى بري الى أن يستولد من كارثية الأزمة، فرصة إنقاذ يضعها برسم الشركاء في الوطن، ترتكز بالدرجة الاولى على اعادة الاعتبار لاتفاق الطائف، من خلال تطويره عبر خماسيّة حدّدها آنذاك:
- إقامة الدولة المدنيّة.
- صياغة قانون إنتخابي خارج القيد الطائفي على قاعدة لبنان دائرة إنتخابية واحدة أو المحافظات الكبرى والإقتراع في اماكن السكن.
- إنشاء مجلس للشيوخ تُمثل فيه كافة الطوائف وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية.
- تعزيز إستقلالية القضاء وتطويره وتحصينه.
- إقرار ضمان إجتماعي وصحي للجميع، وصياغة نظام ضرائبي موحّد تكون فيه الضرائب تصاعدية.
ولكن ما الذي حصل أو تغيّر بين 31 آب 2020 و31 آب 2021؟
لعلّ نظرة سريعة الى واقع الحال اللبناني، كافية لتجعل الناظر اليه لا يتردّد في القول: الله يرحم البلد.
فتلك العناوين التي طرحها بري، تُضاف اليها المبادرات المتتالية التي اطلقها لتسريع التأليف وإخراج الجنين الحكومي من رحم التعقيدات المفتعلة، كان يفترض ان تحظى بإجماع وطني عليها، باعتبارها معبّرة عمّا يطالب به كلّ اللبنانيين، ولكن قابلتها «زناخة» سياسية وحسابات حزبية، وألغام، وطموحات، ومقامرات، وعقل نيروني قابض على السّلطة، لا يعبأ الّا بإشعال النار وافتعال الحرائق، حتى ولو اكلت النار لبنان وطناً ودولة وشعباً ومؤسّسات. عقل طيّر تكليفين، بمعايير غير مسبوقة قابضة على فرصة الإنقاذ التي يتيحها تشكيل الحكومة، وبإرادة تحكّم واستئثار لا حدود لها، ويسعى جهده، بالمعايير ذاتها وإرادة التحكّم ذاتها إلى «تطفيش» الثالث.
والنتيجة المحسوسة تبعاً لذلك، هي أنّ لبنان بوضعه الحالي صار أقرب لأن يكون وطناً منتهي الصلاحية، ومع هذا العقل لا شيء يضمن بقاءه على الخريطة، فقد تغيّر لبنان بفعل فاعل؛
فهو من حيث النّظام، صار الطائف شبه ميت سريرياً، صار دستوره إلهاً من تمر تؤكَل مواده واحدة تلو الأخرى، فلا تُحترم حصانات، ولا تُحترم مقامات، ولا تُحترم مؤسّسات، وتُفسّر على هوى المُمسكين بالكراسي تحصيناً للطامحين والورثة!
وهو بوضعه السياسي في ذروة التفكّك والانقسام والغليان الطائفي والمذهبي وحتى المناطقي، وكأنّه على مشارف حرب. وثمة من صار يجاهر بخشيته من أن يكون هناك، في بعض زوايا السلطة، من قطع على نفسه عهداً بألّا يُسلّم «الرّاية» لغيره إلّا والبلد خراباً .. هذا إذا وُجد هذا الغير؟!
وهو بوضعه الاقتصادي والمالي والمعيشي والاجتماعي ارتطم بالارض واصبح تحتها، وصار مصنّفاً من قِبل المؤسسات الدولية ما دون الصّفر بدرجات رهيبة، وكلّ اللبنانيين يعيشون الخوف على حاضرهم ومستقبل ابنائهم، ودُفِّعُوا أغلى ما يمتلكونه. ودُفِعوا لأن يكونوا تحت رحمة الزعران، فالسلطة على الارض هي لزعران السوق السوداء وزعران البنزين، وزعران المازوت، وزعران التخزين، وزعران التهريب، وزعران الدواء، وزعران السلاح المتفلّت، وزعران التشبيح والسرقات.. وكلّ هؤلاء الزعران يتمتّعون بغطاءات وحمايات .. لصوصية وفلتان على عينك يا تاجر، وأمّا السلطة التي يفترض انّها سلطة، فراقدةٌ على سرير شللها وهشاشتها وفشلها، مستسلمة لكلّ الزعران!
في خطاب 31 آب من السنة الماضية، أكّد الرئيس برّي انّ السبيل الوحيد لجعل لبنان وطناً، هو الانتقال من دولة المحاصصة الطائفية الى الدولة المدنيّة، لكن السؤال كيف يمكن الانتقال الى الدولة المدنية مع عقل يمعن في شدّ لبنان الى ما وراء التخلّف وإبقاء عناصر التفجير قائمة فيه؟
يبقى السؤال في موازاة هذا المشهد الكارثي: ماذا سيقول برّي غداً؟
قبل أيام تلقّى بري رسالة من جوزيب بوريل قال فيها، انّ لبنان في حالة كسوف، والامور تفلت من عقالها، وهو توصيف يستبطن نعياً غير مباشر للبنان.. وقبل نحو سنة تحدّث وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان عن غرق التايتانيك اللبنانية.. وما بين الرسالة والتايتانيك وطن يُحتضَر ودولة مهترئة وشعب صار منكوباً وسلطة بائسة.
تلك الصورة المأساوية يراها الرئيس بري، فلقد اعتصم بالصمت، وصام عن الكلام، رغم حجم الإفتراء والاستهداف الذي يطاله او يطال دوره ودور وموقع وهيبة مؤسسة مجلس النواب، لم ينجرّ إلى سجال، تاركاً الكلام الفصل لذكرى تغييب الامام الصدر، ففي هذه الذكرى كلام عالٍ، وعالٍ جداً هذه المرّة، واكبر من صدى الصوت، مع لبنان الوطن والدولة والمؤسسات .. مع القضاء النزيه العادل لا المسيّس الغارق في الاستنساب والادّعاءات الانتقائية وفقاً لهوى هذا وذاك من السياسيين وغير السياسيين .. مع لبنان الموحّد والشراكة وليس الشركة .. مع الدستور والطائف .. ومع الناس.. وفي وجه من حاول ويحاول خطف لبنان وتغييبه!