د. جـمال نـون- ليبانون تايمز
في منتصف شهر نيسان 2021، أظهرت مستويات النمو الاقتصادي في الصين أرقاماً مفاجئة، إذ شهدت خلال الأشهر الثلاثة الأولى نموّاً بنسبة 18.3 في المائة، مقارنة بالربع الأول من العام الماضي، وهو رقم يتجه في مسار معاكس لما تشهده معظم الدول الصناعية، متأثرة الى حدّ كبير بتداعيات فيروس كورونا الذي أصاب الدورة الاقتصادية في العالم بمقدار ما ترك بصماته الصحيّة المفجعة على معظم المجتمعات، ويقدّر صندوق النقد الدولي أن الصين قد تشهد المزيد من النمو بمعدل 8.1 في المائة هذا العام.
الأرقام الصينية يمكن ترجمتها أرباحاً صافية في المعركة المفتوحة التي تشنّها الإدارة الاميركية وتحشد لها أو تحاول، ما تمتلكه من تحالفات مؤثرة ولا سيما في الفضاء الآسيوي وامتداداته، ومن عناصر المواجهة: الضغوط السياسية والاقتصادية والتجارية، بما في ذلك سلاح العقوبات ضد شركات وهيئات وأشخاص، ودعم أي حالة معادية للصين، كما تتكىء واشنطن على شعارات تآكلت فاعليتها، وإن بقيت من “عدّة الشغل”: حقوق الانسان والحريات العامة والخاصة، الديمقراطية والانتخابات الحرة والتعددية السياسية والحزبية، حقوق الاقليات العرقية والدينية، استعادة شعار الديكتاتورية الشيوعية، والهدف، محاولة شـيطنة الصين، نظاماً وحزباً وتاريخاً، وحتى شـعباً وتـقاليد.
بالنسبة الى اميركا، هي معركة مصيرية لأن “جمهورية الصين الشعبية هي التحدّي الأول بالنسبة لنا، وذلك لأنهم يحاولون إعادة تشكيل النظام العالمي”، كما قال وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن.
ويمكن الذهاب أبعد في تقدير مدى “الهلع” الاميركي، لأن “الصين هي المنافس الوحيد الذي لديه القدرة على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، لتوجيه تحدّ كبير لنظام دولي مستقر ومنفتح”.
هذا التوصيف ورد في وثيقة “التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي الاميركي” التي صدرت في مطلع آذار الماضي، ففي هذه الوثيقة التي لا تتجاوز العشرين صفحة من الحجم الصغير، جاء ذكر الصين 15 مـرة، والتوصية الموجّهة الى الادارة الاميركية انه “يجب علينا أن نتأهّب لحقيقة ان توزيع السلطة في جميع أنحاء العالم يتغيّر، ما يخلق تهديدات جديدة”.
المعركة بالنسبة الى واشـنطن هي إذن، على المستـقبل، اذ أن الاقتصاد الاميركي الذي كان يمثل نحو 40 في المئة من حجم الانتاج العالمي، قبل حوالي نصف قرن، تراجع حالياً الى ما دون 25 في المئة، وتتوقّع مؤسسة بروكينغز الاميركية العريقة ان تتـفوق الصين على الولايات المتحدة من حيث حجم الاقتصاد بالفعل، في العام 2028.
ولمواجهة هذا المسار الحتمي، تحاول الادارة الاميركية استخدام كل الاوراق المتاحة على قاعدة ان المعركة اقتصادية – سياسية ترسم صورة العالم في المديين القريب والمتوسط.
ليس صحيحاً ان اميركا في حالة أفول وتراجع، إستناداً الى ما تشهده منذ سنوات من تراجع في نسبة مساهمتها في الاقتصاد العالمي، ومن تفاقم أزمتها من جراء “كورونا”. فأميركا لا تزال في موقع الريادة في المجالات العلمية والتقنية والصناعية وفي معايير الناتج القومي والثروة الوطنية، لكن المعطيات الرقمية تـشي بوضوح أن الفارق الكبير في نسب النمو يتضاءل بصورة مضطردة لصالح عالم أكثر توازناً، وهذا يعود أساساً الى الثورة الصناعية الجديدة لدول كانت تنتمي الى العالم الثالث واستطاعت في عقود قليلة ان تختصر مساراً علمياً راكمته دول الغرب الصناعية على مدى ثلاثة قرون، والمفارقة ان هذه الثورة الصناعية الجديدة تـتركز في جنوب شرق آسيا.
لقد توجّب على اميركا ان تشهر الحرب الاقتصادية على اختلاف أوجهها: العقوبات على كبرى الشركات الصينية المنافسة، مثل شركة “هوتوي” للهاتف المحمول، والضرائب المرتفعة على الصادرات الصينية، والمطالبة بتحقيق توازن أكبر في الحركة التجارية بين البلدين العملاقين من خلال انفتاح الصين بصورة أكبر على المنتجات الاميركية، في الوقت الذي تعمل واشنطن على محاصرة استثمارات الصين في الخارج وتـشنّ حملة تشهير على منتجاتها، آخرها كان قبل أشهر مع محاولة الترويج بأن هذه المنتجات ملوّثة بفيروس “كورونا”.
ويمكن رصد الأجواء الاميركية المعادية من خلال اقتراحات السيناتور الجمهوري ريك سكوت، مقترحاً تبنّي إستراتيجية رباعية لردع الصين: “الإستمرار في السياسات التجارية التي تضمن تجارة عادلة للولايات المتحدة، إتخاذ خطوات حاسمة واستراتيجية لإخراج الصين الشيوعية من سلسلة التوريد الأميركية، وتعزيز سياسات شراء المنتجات المصنّعة أميركياً، إشـراك المجتمع الدولي وحلفاء واشنطن في حملة ضغط قصوى على الصين الشيوعية.
واخيراً، على الولايات المتحدة أن تقود العالم وتـتخذ إجراءات جريئة لتسليط الضوء على انتهاكات الصين الشيوعية لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد شعبها”.
هذه الاجواء والحرب الاقتصادية التي تطبع العلاقات بين العملاقين الاقتصاديين لا تغيب عنها بقية أشكال القوة المعتمدة، وإن احتلت، حتى الآن، الموقع الرديف، إذ تستعمل واشنطن الضغوط العسكرية من خلال الحشود والاستفزازات، ولا سيما في بحر الصين، ويتمّ بين الحين والآخر إفتعال مناوشات حدودية مشبوهة، بين الهند والصين. فيما تستخدم واشنطن الحليف الكوريا الجنوبي وتدفعه الى إجراء مناورات عسكرية لاستفزاز الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، الحليف الأقرب للصين.
أما ورقة القوة الثقافية أو الايديولوجية، فتتجلى خصوصا في محاولة الادارة الاميركية إثارة التناقضات الداخلية للمجتمع الصيني، ولا سيما من خلال التركيز على ورقة الاقليات العرقية والدينية، ومنها الاقلية المسلمة (الاويغور)، وقبلها قضية التيبيت، والهدف فقط تفجير المجتمع الصيني من الداخل، ما يفرمل التطور الاقتصادي للعملاق الصيني، كما تشتهي الادارات الأميركية المتعاقبة.
ترفض الادارة الاميركية الاعتراف بأنها، وللمرة الاولى في تاريخها، تجد نفسها أمام معركة خاسرة، ليس بسبب ضعفها البنيوي والصناعي فقط، وتراجع نسبة المساهمة الاميركية في دورة الانتاج العالمي، وإنما بسبب هذه “اليقظة” التي يعيشها العملاق الصيني على كل المستويات، بما فيها المجال العسكري، إذ تقوم بكين بصناعة حاملة طائرات كل عامين، وتملك حاليا حاملتي طائرات، إضافة إلى صناعة 5 سفن عسكرية خلال السنوات العشر المقبلة.
هذا التطور العسكري للصين، مرتكزا الى ما توفّره روسيا من خلفية داعمة، يؤدي حتما الى حماية استراتيجية للصين في نهوضها. وللعلم، فإن الصين ليست الاتحاد السوفياتي. فهي أقوى بكثير. وعلى سبيل المثال، لم يبلغ الناتج المحلي الإجمالي السوفايتي في ذروته إلا 40 في المئة من نظيره الأميركي، إلا أن الصين ستـتساوى مع الولايات المتحدة في هذا المعيار خلال هذا العقد.
تبقى الاشـارة الى “الوثيقة الاستراتيجية” وما تـشي به من مؤشّـر شديد الدلالة: التهديدات “الخطيرة” في حسابات المؤسسة السياسية الاميركية، ليس في “غلبة” النموذج الآخر، أيّا يكن هذا “الآخر”، سواء كان صينياً او روسياً او … الخطر كما يراه صنّاع القرار في اميركا، يتمثّل في ما يشهده “توزيع السلطة في جميع أنحاء العالم من تغيير”. إذ ليس مسموحاً أيّ خارطة جديدة “للسلطة”، بما يحدّ من الهيمنة الاميركية على العالم، لا مكان لأيّ توازن في العلاقات الدولية ولا لمصالح الآخرين حين تتعارض مع مصلحة أميركا.