الدكتور عباس فتوني: شاعر وناقد – خاص ليبانون تايمز
عشق الصاحبُ بنُ عبَّادٍ القراءةَ، وتولَّع باقتناءِ الكتبِ وجمعِها، بعد أن استهوتْهُ إلى حدٍّ عجيبٍ. تنافسَ الملوكُ والأمراءُ على اقتناءِ نسخةٍ من كتابٍ “الأغاني” لأبي الفرج الأصبهاني، وفي المقدمة منهم مفخرةُ زمانه الصاحبُ بنُ عبَّادٍ الذي يقول عنه ما نصُّه: لقد كان لي في أسفاري عدةُ جمالٍ تحمل معي ما ألتذُّ به، وأحتاج إليه من أسفار ودواوين الشعر، أرجع إليه، وأنبِّش فيها حتى إذا كان لي كتاب الأغاني فقد كفيتُ منها كلّها به، وكفى*.
فأيُّ قائدٍ هذا الذي يأخذ معه في غزواته ورحلاته وأسفاره عدّة جمالٍ تحمل كتبًا؟!
ودفعَهُ حبُّ الكتبِ والتعلُّق الغريبُ بها لأن يكوِّن مكتبةً عامرةً لا مثيلَ لها في ذلك الزمان.
كان يقضي جلَّ وقته بين رفوفها، ولم يذكرِ التاريخُ أنَّ أحدًا اعتذر عن قبول منصبٍ رفيعٍ في الدولة بسبب الكتب والمكتبة التي نوَّه بها، لمّا أرسل إليه صاحبُ خراسانَ نوحُ بنُ منصورٍ السَّامانيُّ، أحدُ ملوكِ بني سامان، ورقةً في السِّرِّ يستدعيه بها إلى حضرته، ليفوِّض إليه وزارتَهُ، وتدبيرَ أمر مملكته، ويرغِّبه في خدمته، وبذَلَ البذولَ السنيَّةَ، فكان من جملة أعذاره قولُهُ:
كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي، وعندي من كتب العلم خاصة ما يحتاج لنقله على أربعمائة جمل أو أكثر، فما الظنُّ بما يليق بها من التحمُّل؟**
وعلَّق أبو الحسن البيهقيُّ على ذلك بقوله: وأنا أقول: بيت الكتب الذي بالرَّيِّ دليلٌ على ذلك، بعدما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين، فإني طالعْتُ هذا البيت فوجدْتُ فهرست تلك الكتب عشرة مجلّدات، فإنَّ السلطان محمودًا لما ورد إلى الرَّيِّ قيل له:
إن هذه الكتبَ كتبُ الروافض وأهل البدع، فاستخرجْ منها كل ما كان في علم الكلام وأْمرْ بحرقه.
ويظهر من كلام البيهقيِّ هذا، أنَّ عمدةَ الكتب التي أُحرقَتْ هي خزانةُ كتبِ الصاحب.
“وكان خازن تلك المكتبة ومتوليها أبو بكر محمد بن إبراهيم علي بن المقري المتوفى (381ه)، وأبو محمد عبدالله الخازن بن الحسن الأصبهاني.***
هذه الكتب خلقَتْ من الصاحب رجلاً وحيدَ عصرِه، ومفخرةَ زمانِه حقًّا، إذ شاع نبوغُه في العلوم وتضلُّعه في فنون الأدب بصورةٍ فريدةٍ، وأصبح شخصيّةً متميّزةً تستدعي الإفاضة في التحليل من ناحية العلم تارةً، ومن ناحية الأدب تارةً أخرى، فهو فيلسوفٌ متكلِّم، فقيهٌ، متحدِّثٌ، مؤرِّخٌ، لغويٌّ، نحويٌّ، أديبٌ، كاتبٌ، شاعرٌ نابغةٌ، جمع الشوارد، مؤلِّفٌ من طرازٍ نادرٍ.
ألَّف أكثرَ من اثنين وثلاثين كتابًا في العلوم والآداب ومتفرقات المعرفة والثقافة، وإضافةً إلى ذلك كان يملي الحديث على خلقٍ كثير، واعترف بذلك الشاهدُ والغائبُ.
وصفه ابنُ خلَّكانَ بقوله: كان نادرةَ الدهر وأعجوبةَ العصر في فضائله ومكارمه وكرمه.
وقال الأمينيُّ في حقِّه: إنه أحدُ أفذاذ العلم الذين لم يعدهم أي مقام، منبعٌ من الفنون، تجده في الذروة والسنام من الفضل الظاهر، فحقَّ له هذا الصيت الطائر والذكر السائر في الفلك الدائر.
*الغدير: 4/74.
**شرح ديوان المتنبي للبرقوقي: 98.
***الغدير للأميني: 4/42.