غسان همداني
الجدل البيزنطي تعبير يُرجع البعض أصوله إلى القرن السابع الميلادي، عندما شُغف مواطنو الإمبراطورية البيزنطية بالجدل اللاهوتي، ودرج البيزنطيون في مجالسهم على الجدل حول الثالوث وطبيعة الأب والابن، وكانت هذه الجدليات تلهب الأجواء بين البيزنطيين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية والفكرية، كما كانت تهز كنائس الشرق بأكملها، وبالرغم من التدابير القاسية التي اتخذهاالإمبراطور قسطنطين الثاني في محاولة لإخماد ذلك الجدل وصلت إلى طرد الرهبان والقساوسة من الكنيسة، وفصل موظفي الدولة عن وظائفهم، ومصادرة الأملاك، والعقاب البدني، غير أن ذلك لم يُجدِ نفعًا، واستمر الجدل الديني في الإمبراطورية البيزنطية حتى القرن الخامس عشر.
يبدو أن معظم القوى السياسية في لبنان أصيبت بلوثة الجدل البيزنطي، مع اختلاف نوع الموضوع الذي يدور حوله هذا الجدل، فبالرغم من الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والأمنية التي يمر بها لبنان لم ترتق هذه القوى الى مصاف الترفع عن الحسابات الضيقة، وضرورة تقديم المصلحة العامة وبقاء لبنان على هذه المصالح الضيقة، والظاهر ان هذه القوى تنطلق من شعار أنا أو لا أحد ، أو كما يقال في المثل الشعبي ” من بعد حماري لا ينبت حشيش” لترسم سياسة تعاطيها مع هذه الأزمة.
ينزلق لبنان في مهوار لا قعر له،وكما أسلفنا في مقالات سابقة حول الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والأمنية، وتنامي النزوح السوري، تظهر الى العلن مبادرة وطنية تنطلق من الحرص على اشتراك الجميع في انقاذ هذا الوطن المثقل بالجراح، وهي مبادرة الرئيس نبيه بري بالدعوة الى حوار يجتمع حول طاولته رؤساء الكتل النيابية في المجلس النيابي دون شروط مسبقة، وجلسات نيابية مفتوحة لإنتخاب رئيس الجمهورية،، ولا تنتهي الابخروج الدخان الأبيض.
لكن القوى التي ذكرنا وبدلاً من تلقف هذه الفرصة غلّبت الجدل البيزنطي على خطابها السياسي، تارة بالقول أن الدعوة الى الحوار غير دستورية، وتارة اخرى أن الدعوة مفخخة وهي محاولة لجر المعارضة الى فخ الرضوخ لمطالب الممانعة، وطوراً أن هذه مؤامرة ايرانية لفرض مرشحها، وغيرها من التفاهات التي إن دلت على شيء فإنها تدل على غل سياسي ، وحسابات ضيقة، وانتظار كلمة سر خارجية، مع العلم أن لبنان لايعيش ترف الوقت، وفترة الاصطدام القوي باتت قصيرة جداً.
في القرن الخامس عشر الميلادي، وعندما حاصر السلطان العثماني محمد الثاني محمد الفاتح) القسطنطينية)، وبينما كان مصير الإمبراطورية بأكملها على المحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولًا بمناقشة أمور فقهية ولاهوتية لا طائل تحتها، مثل جنس الملائكة (أهم من الذكور أم من الإناث)، وحجم إبليس (هل هو كبير بحيث لا يسعه أي مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة)، وبينما كان الجدل محتدمًا في قاعة مجلس الشيوخ ـ رغم محاولات الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر لصرفهم عن الجدل العقيم من أجل مواجهة الغزاة ـ كان القتال يدور في شوارع بيزنطة بعد أن تمكن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوارها، وأخيرًا استطاع العثمانيون السيطرة على المدينة، وقضى الإمبراطور نحبه على أسوارها.
فهل يستمر اللبنانيون بالجدل البيزنطي اللبناني بينما تتهاوى أسوار الوطن تحت وطأة الأزمات المتفشية أو يعود اللبنانيون الى رشدهم فيصوغوا اتفاقاً صنع في لبنان وينقذه من مصير أسود يهدد بقاءه ، أو نبكي كالنساء وطناً لم نحافظ عليه كالرجال.